رَســائـِـل فُـــؤَاد_ ج_١٣_الحـياة عبرة والموت عبرات
فؤاد آلبوسعيدي
من الواضح جيّداً بأنّـه في بعض قصص الأوّلين والحكايات القديمة التي تُحكى وتُقال وتصل إلى مسامعنا الكثير من الأمور التي يمكن أن نستمدّها من أجل التّدبر والتّأمل والاستفادة من أحداثها التي وقعت في السّابق وكذلك فيها الكثير ممّا يمكن أن يُستنبط من العِـبر التي قد تفيدنا في حياتنا الحاضرة وفي سنين عمرنا القادمة؛ وإنّ أكبر دليل على وجود العِبر في قصص الأوّلين هو ما جاء في الكتاب الكريم في قوله تعالى وذلك في سورة يوسف من الآية (11)..
{ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصهمْ عِبْرَة لِأُولِي الْأَلْبَاب }.
يدهشني بعضهم من أولئك السّاهين الذين لا يتعلّمون ولا يعون واقعية حدوث الفناء الدنيوي وحقيقته وتقلّب الأحوال وتغيّر مستويات الدّورة الحياتية للإنسان متى ما شاء الله الخالق بذلك؛ يملؤني الاستغراب من بعضهم الذي لا يأخذ من الأحداث والمواقف الواقعة أمامه كعبرةٍ تصدّ عنه ولو قليلاً من غدر الأيّام ومفاجآت السّنين القادمة؛ يدهشني من لا يضعون ما يسمعونه أو يشاهدونه من انقلابات في حياة الآخرين كدروس وخبرات مكتسبة وذلك ليس جهلاً منهم ولكن هو فقط لأنهم يضعون بينهم وبين الأحداث الواقعة مليوناً من أطنان التّعتيم والنّكران عن المعرفة حتى يكاد يوصفون بالجهل رغم معرفتهم بالواقع الظاهر أمامهم وبالحقيقة التي ربّما تتكرّر في حياتهم.
الدنيا فانية في وقتها وحياتك مقدّرة عند خالقها والموازين جميعها مُقنطرة بحساب مكتوب ينعدم فيه تماماً الأخطاء؛ يتجاهل ويتغابى بعضهم إلى الحدّ الذي يفتـقد فيه الشّعور بحقيقة الفناء وواقع نهاية الحياة لشعوره بأنه قد وصل إلى مستوى عالٍ لن يسقط منه أبداً، وبعضهم ربّما قد يصل إلى ذلك الحال من الجهل المُفتعل والاستغباء الأعمى للحقائق لأنّه قد يكون مقيّداً في عالمه الخاص وداخل أنانية أفكاره التي تنفي وجود البقيّة من أفراد المجتمع وذلك ما يوصله الجهل بأحاديث الآخرين وأحداثهم الواقعة أمامه فيطوفه أن يأخذ من الأحداث الماثلة في حاضره العبر التي ستفيده في ما بقي له من أيّام؛ إنّ المشاعر تصبح جافّة تجاه بعضهم من الآخرين الذين نعيش معهم ونعرفهم سواء من الأهل والأقارب والجيران أو سواء أولئك الذين تختلط معهم يومياتنا في محيطنا المهنيّ، جفاف المودّة يشتدّ بين فترة وأخرى حيث نقابل من الآخرين انعكاسات تصرّفاتهم التي خلقنا فيها لهم العذر مليون سببٍ في المرّة الأولى والثانية والثالثة وأحياناً حتى في المرّة الرّابعة كي لا ننسب عليهم العيوب والقصور التي ما كنّا سنحبّها عليهم؛ لكن هيهات فالحال يصبح واضحاً يوماً بعد يوماً وتلك الأعذار اللاّتي كنّا نضعها أمام أيّ سوء تقدير قد نبادره تجاه أولئك قد أصبحت تتلاشى وتتناقص بين حدث وآخر حتى أصبح الجفاف في المودّة واجباً لجفاف البئر الذي كان يسقي القلوب لتكون وسيعة في ودادها.
صدورنا المرهفة تحمل الكثير من المُنغّصات المٰحزِنة ويسكن في داخلها الكثير من الهُّموم القائمة ولكن هذه الصّدور لن تتحمّلّ أكثر من ما فيها من أمورٍ عابرة وأحداث قائمة قد وقعت وباتت تزيدها ضيقاً يوماً بعد يوم؛ القلوب كذلك بها نفس الشؤون.. فإنّ فيها الكثير من السّعة حسب ما يُقال في بعض المجالس ولكن أحياناً تصل الأمور بأن نشاهد ونسمع عن موازين لا تسعها قلوبنا فلكلّ شخص قدرته على حملِ الأمور التي يحبّها أو أن يستضيف مُكرهاً تلك الأحداث التي يكرهها داخل جنبات قلبه وبين أضلع صدره، تقدير هذه السّعة في القلوب في الحقيقة ليس لنا حتى عندما نقول في بعض الأحيان (لقد وصلت إلى قدرتي القصوى في التّحمل) فتلك الجملة مجازيّة أكثر عن كونها واقعية نتحكّم فيها؛ السّعة مقادير ولذلك أحياناً قد يصل الإنسان إلى الدّرجة التي لا يمكنه بعدها أن يتحمّل المزيد من الذي يؤلمه بشدّة ويضايقه بحسرة بل أحياناً حتى بعض الأفراح وصولها عند بعضهم قد تسبّب السّكتة القلبية لمتلقّيها لانعدام السّعة في القلوب بسبب استمرارية عسر الأحوال ولاتّساع بؤر الضّيق في الصّدور التي كانت مكتومة ومكبوتة رغماً عنها.
الدّنيا فانية والحياة منتهية والأجل سنذوقه لأنّ الموت له أوقاته وأزمانه المكتوبة وهو آت إلينا لا محالة ودون تفريق أو تمـيـيز بين النّاس جميعاً قويّـهم وضعـيفهم شجاعهم وجبانهم غنيّهم وفقيرهم مثقّفهم وجاهلهم؛ هم جميعهم سواسية ولا فرق بينهم عند الخالق الذي خلقهم ولا تفضيل بينهم عندما تحين ساعة الوفـاة عند واهب الأعمار بل حتّى أنّ سكرات الموت تتشابه عند الجميع كتشابه تلك الأكفان التي تُـلفّ بها جثامين الأموات وتتشابه مقاييس القبور التي يُنزل إليها الأموات فلا يفرق بين قبر هذا هنا في الشّرق عن قبر ذاك هناك في الغرب، يتشابه كلّ شيء فالقادر لم يفرّق بينهم لا في أثناء حياتهم ولا حتى بعد موتهم خلقهم سواسية متساوين وفقط التّقوى والقبول عند الخالق هو الفارق بين هذا هنا وذلك هناك؛ فمن أنت إذن لتفرّق بين جماعة من النّاس بحسب ألوان أجسادهم؟ إذن من أنت لتفاضل بين جموع البشر بأسُسٍ مادية؟؛ أخبرني من أنت لتعامل النّاس وتصنّفهم أحزابا ًوجماعات كما تشاء وتريد حتّى وهم أموات واقفون أمام ربّهم الخالق وفقاً لأهوائك المادية ومقاديرك الدّنيوية النّاقصة؟ من أنت إذن لتُثقِل على قلوب الآخرين وصدورهم زيادةً من الضّيق فوق ضيق الأحزان التي تكتنف وتحيط بقلوبهم عند فقد أحبّتهم فتقوم أنت بعنصريّتك بأمورٍ لا تجبر خواطرهم المتألّمة؟
لتعلم بـأنّ هذه الدّنيا فانية إن كنت لا تعي ذلك..؛ ولتعلم بـأنّ أجلك الذي لا تعلم عنه هو حتماً آتٍ إليك في الموعد المكتوب والميعاد الموضوع الذي حدّده واختاره الخالق الباقي لك؛ في يومٍ ما ستفنى عنك الدّنيا وتتركها لغيرك فأنت ربّما تتجاهل حقيقة أنّك لست سوى السّـابق إلى الموت وبأنّ غيرك سيلحق بك إلى حيث أنت ذهبت إليه؛ الدّنيا فانية فافرح لأنّك قد تكون لاحقاً لمن سبقك إلى المثوى الأخير؛ افرح كنت تعلم يقيناً بأنّ الله هو فقط الباقي فلا المال ولا العلم الذي تملكه سيمنع عنك سكرات أو سيبقيك بعيداً قطعة القماش التي سيُلفّ بها جسدك العاري حيث سيقول حينها النّاظرون إلى جسدك الذي غادرته النّبضات قد أتى أمر الله؛ قد أتى أمر الله……و ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ﴾ آل عمران: من الآية (185).