سلطنة عُمان تحتفل بالعيد الوطني الرابع والخمسين المجيد المجيد
Adsense
مقالات صحفية

تأملات يومية..

د. رضية الحبسية

نعم الله علينا لا تُعد ولا تحصى، ولست هنا لأعدد بعض منها، بقدر استشعارها والتفكر فيها، فلا يمر يوم، إلا ويجلو بخاطري ما نحن عليه من نعم، ما كنت أدركها كما يجب، وفي مقالتي هذه، بعض من تأملاتي اليومية فيها، التي لن تخلو من مواقفً حياتية، لدى الحديث عن النعم الآتية:
– العائلة: “لا يشعر بها إلا من يفقدها”، جملة اعتدنا ترديدها، ولكن كم منا توقف برهة في عمق معناها، أو ماذا لو فقدناها، أو كيف يمكن لنا الحفاظ عليها؟ كلها تساؤلات تستدعي التدبر فيها. فالعائلة رباط وجداني متين بين أفرادها، يَقوى بقوة تنشيط أواصر القُربى التي كثيرا ما سلبتنا إياها طبيعة الحياة العصرية، وكما غدا كل شيء في حياتنا رقميا، كذلك هي علاقتنا أصبحت تقنية، وأصبحت مشاعرنا باردة، بجمود أجهزتنا الذكية التي نقتنيها بين أيدينا. فبرغم قصر المسافات بيننا فضائيا، إلا أنها – الروابط الإلكترونية- لم تنجح في تقوية تلك الأواصر الأُسرية، بل زادتها تعقيدا، وأطرتها بمحددات وهمية، استطاع الفرد منا إقناع نفسه بها، تحت مسمى التطور والمعاصرة، متجاهلين عمدًا أن في بساطة العلاقات أصالة، وفي الاتصالات تقوية للقرابة.

ولكل من يكابر مغالطًا بأهمية دفء الأسرة، نقول: بالله على رسلك، راجع نفسك، فإن لم يكن لأجلك، فليكن رحمة بذريتك، فالموروثات القيمية، لا يمكن محوها بشعارات خادعة، أطلقها مغرضون، لم يعيشوها، ولم يدركوها، فإن لم تكن لمبررات دنيونية، فهي متأصلة بفعل جينات بيولوجية.

ولمن يحرص على بناء أسوار من الحقد والكراهية بينه وبين أهله، حتمًا ستعود عليه نتائجها من خلال أبنائه، ولن يفلح في تكوين أُسرة تغنيه عن لحمة عائلته. لذا؛ أيها الغارق في متاهات الحياة، تيقن خطورة معاداة أقربائك وهجرانهم، فتصبح منبوذًا كمن أُريق دمه، لا يجرؤ على الاقتراب من حِمى قبيلته. ففي حالات كثيرة؛ إن التنازل عن رغبات شخصية مقابل الحفاظ على متانة الروابط العائلية؛ يُغني الفرد من العيش مبغوضًا حتى في أصعب الظروف الحياتية.

– الصحة: ومن منا لا يدركها كنعمة؛ فانعدامها اختبار لفعالية وجدوى وقيمة بقية النعم. وكما قيل: “الصحة تاج فوق رؤوس الأصحاء”. وقد لا يُستثنى بشرًا لم تزره وعكة ما، صغرت أم تعاظمت، يشعر معها بعجزه عن مزاولة نشاطاته اليومية بذات المستوى، وبالمقابل يُقدّر قيمة تمتعه بأفضل الحالات صحيًّا وبدنيًّا، حين يُلازم مريضًا عاجزًا عن خدمة نفسه، ويصل إحساسه للذروة بتلك النعمة، حين يقف أمام زجاجات تفصله عن أحد المقربين في إحدى غرف العناية المركزة، مُحاطًا بالأجهزة من كل صوب، تحت رحمة الله ورعاية الطواقم الطبية، فلا مال ولا ولد، ولا جاه، ولا منصب، يسعفانه مما هو عليه من بليّة.

وقد تأملت ذلك من تجربتي الآتية؛ وأنا أُناظر والدتي الغالية، حيث نقف عاجزين عن انتشالها مما تعاني، ويقف الأطباء حيرى أمام حالتها، ولا نملك معها إلا الدعاء، للتخفيف عنها. تأملت الحالة وأخذتني الذاكرة إلى ليالٍ كانت أمي بكامل وعيها، أسمع اليوم صدى صوتها، كيف كانت تردد ذات الأسئلة:
أمي: رضية رقدتي( نمتي)؟ أجيبها: لا ماه، بعدني. فتكمل: أنا ما رقدت .. فأقول “طيب ماه نامي، أنا بنام تعبانه ما نمت طول النهار ومن الفجر ناهضة” دقائق وتكرر ذات الجمل .. ويأتيها مني نفس الجواب، وأحيانا أحاول إشغالها بتذكريها لقراءة السور القرآنية القصيرة، علها تهدأ فتغفو، وعلّي أسرق دقائقًا منها للنوم، قبل مواصلة ذات الحوار .. ومع قرب ساعات الفجر إلا قليلا، أنفض الفراش فألملم نفسي لعلي أحظى بركعات قيام الليل، فتشعر بي، وأستأذنها كيلا تفقد غيابي.

أنا: ماه أنا بدخل أتوضأ للصلاة، فتسأل: أنا صليت؟ أجيبها: “لا بعدش ماه لم يؤذن الفجر .. أصلي القيام وبعد الآذان بخبرش، أنتي نامي تو” ولكن هيهات النوم يأتي، وهذا حالها منذ بضع سنين.

واليوم والحزن يخيّم عالمي، والحسرة تعتصر قلبي، أقول: آه يا أمي، ليتني اليوم أسمع صوتك، وتُلحي عليّ بالسؤال الذي كنت يومًا أستثقله، حين يستمر حتى ساعات الفجر، وأنا وأنتِ كلٌ منا على فراشه يتقلب، إحدانا السّهاد يسيطر عليها، والأخرى إرهاق يومياتها يسطو عليها.

فالحمد لله دائمًا وأبدًا، إن كانت تلك ليال ظننا أنها مرهقة، وقد شعرنا بصعوبتها لحظة، فاليوم نتمنى عودتها، وسماع صوت أمي، الذي غدونا نخشى فقده للأبدِ.

وفي ظل ما نراه مصيبة، نسلي أنفسنا بأن “رحمة الله بها تفوق رحمة الأم على ولدها”.

وهذه جملة أيضا توارثناها، وقلما نحس بعمق معناها، وبأن لطف الله بنا كافل، وبره بنا غامر، وفضله علينا دائم.

– الأمان: كثيرًا ما نقرأ تعليقات ساخرة، أو تعقيبات متعمدة، وفق عبارة “أهم شيء الأمن والأمان” ، ويا ليت جميعنا أدرك خطورة ما دون الأمان، فبدونه تغيب الطمأنينة، وفي انعدامه تتعطل جهود التنمية.

نُشاهد باستمرار صورًا ومقاطعًا لفيديوهات، تنقل لنا حالة جموع الأسر في بعض مواقع سكنى اللاجئين .. وبالتأمل في مثل تلك الحالات التي آلوا إليها، يستدعي معه الحمد لله والثناء على ما أنعم علينا وعلى بلادنا بنعمة الأمان، نصبح ونمسي في بيوتنا آمنين، وبين ذوينا مستقرين، فكم من أقاليم منكوبة، وكم من دول مُستعمرة، وكم من أراض مُغتصبة، وحال أهلها ليس بأفضل من حال المُهجرين واللاجئين في غربة مُفزعة، وعالم ذي ضبابية، ومستقبل مجهول.

وفي أحوال كثيرة نغفل عن نعمة يتمناها أولئك المعوزون والمحرومون. فلنفكر في واقعنا بعقلانية، ونقارن بمصداقية، ولا نكون كما تريد لها العواصف أن تكون، فلا توجد حياة مثالية، ولا مجتمعات فاضلة، في ظل عالم متقلب، تؤثر عليه عوامل عدة، بين سياسية .. اقتصادية .. ثقافية واجتماعية، في كوكبية متداخلة، شاءت الحكومات والشعوب أم أبت، حيث أصبح العالم كتلةً واحدة، ذات مصالح مشتركة، وتكتلات إقليمية، كل منها تسعى لحماية مصالحها في ظل مطامع جيوسياسية والتي لا تخفى على المختصين سيناريوهاتها الاستراتيجية، والتي لا تعترف إلا بالمصالح الشخصية، ولنعي أننا في دار البلاء والفكر والاختبار، لا في دار الخلود والمقامة والقرار.

العمل: هي من نعم الله علينا، التي يشعر بفقدها كل عاطل أو باحث عن عمل. فبرغم تذمر البعض من أعمالهم وبيئاتها أو الشكوى من ضغوطها وتشريعاتها، فهم في نعمة لم يستشعروها بحق. ففي مداومة العمل، حراك للعقل والجسد، رياضات فكرية وأخرى عضلية. فكم من الناس تصبح وتمسي بلا هدف، وكم من آخرين تُطوى سنواتهم كسابقتها، وكم من فئات تختتم لياليها بلا إنجازات تسطر صفحاتها، فيغدو الفرد منهم بلا هوية، فاقدًا للأهلية، عبئًا على نفسه وأهله، محسوب على المجتمع عضوًا بلا إناجية.

وبتأملي في مناظر لنسوة بائعات لبعض الخفايف مع الشاي، ولا عيب في ذلك، ولا انتقاصًا من قيمة العمل، ومع إيماني باختلاف مبررات خروجهن للبيع على الشوارع، صباحًا ومساءً، إلا أنني مؤمنة أنا خلف كل واحدة منهن حكاية، بل وألف حكاية، مما لا يتسع المجال للحديث هنا عنها. وفي المقابل هناك من يعيشون في أمان وظيفي، ولا يستشعرونها، نجد أفرادًا يعيشون من قوت يومهم، ولا يعلمون ما في الغد من خبايا، موكلين أمرهم لرازق العباد جميعهم، مستودعين الله مستقبلهم، عملًا بقوله تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ}.

فلكل صاحب صنعة أو مهنة أو وظيفة، يتوجب التفكير بإيجابية في مايقوم به من عمل، بعيدًا عن التشكيك في كل شيء، ولينظر إليها من زوايا أكثر شمولية، ووعيا بقيمة ما بين يديه من عطيّة. فلنمارس أعمالنا بحب، ولنقدم مبادراتنا بإخلاص، ولنعش لحظاتنا بشغف، حينها فقط ستختفي ما نعتقد أنها منغصات، أو نتوهم أن في ترك العمل راحات.

الخلاصة: قال الله تعالى: ” وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها”، فالحمد لله على نعم نحن منغمسين فيها، فلسنا بحاجة لفقدها، كي ندرك قيمتها، ولنستشعر تلك النعم، ففي فقدها أشدّ الندم، فتأتي الرياح بما لا تشتهي السفن. فلنحمد الله حمدًا واجبًا، ونُثني عليه ثناءً متواترًا، فاللهم لك الحمد حمدًا كثيرًا، حمدًا متواليا متسعًا، حمدًا متضاعفًا متسقًا، والحمد لله على مكارمك التى لا تُحصى، ونعمك التي لا تُستقصى.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights