الثلاثاء: 29 أبريل 2025م - العدد رقم 2535
Adsense
مقالات صحفية

ثقة الجاهل وشك العالم .. “تأثير دانينج -كروجر”

خلف بن خميس المعولي

لربما تساءلتَ يومًا عن السبب وراء ما يُبديه بعضهم على محياهم من ثقة مفرطة وثبات شديد عند إبداء آرائهم حول موضوع ما، على الرغم من تواضع معارفهم وقلة اطلاعهم في المجال المتصل بذلك الموضوع. إذ تراهم يتحدثون بلا أدنى شك، وكأنهم محيطون بالموضوع من جميع جوانبه ويعرفون خباياه؛ مما يجعلهم محل تصديق من قِبَل الآخرين.

وقد شرح هذه الظاهرة العالِمان النفسيان ديفيد دانينج وجاستن كروجر من خلال تجارب أجرياها على مجموعة من الأفراد في مجالات شملت اللغويات، والمنطق، والرياضيات، والفاكهة، والقيادة، والهندسة. حيث طُلب من المشاركين تقييم كفاءاتهم، وجودة أدائهم، ففوجئ الباحثان بالنتائج؛ إذ وجدوا أن الأشخاص الذين قيّموا أنفسهم بأقل مما هم عليه في الواقع قد حصلوا على معدلات أعلى من أولئك الذين بالغوا في تقدير أنفسهم. وقد بيّنت التجارب وجود علاقة وثيقة بين تدني مستوى الكفاءة وزيادة مستوى الثقة، فكلما كان مستوى كفاءة الفرد منخفضًا؛ زادت ثقته في تقييم نفسه بشكل يفوق قدراته الحقيقية، والعكس صحيح؛ فكلما ارتفع مستوى كفاءته، قلّت ثقته في تقييم نفسه، وغالبًا ما يكون تقديره لها أدنى من الواقع. ولهذا، عُرفت هذه الظاهرة باسم “تأثير دانينج-كروجر” كواحد من أهم التحيزات الإدراكية في علم النفس.

وقد فسَّر الباحثان ذلك بأن أصحاب الكفاءات والخبرات يميلون إلى التشكيك بقدراتهم ومهاراتهم وصحة آرائهم باستمرار، نظرًا لاتساع وعيهم وإدراكهم لتعقيدات الأمور، ومعرفتهم بمواطن جهلهم، ورصدهم لأخطائهم في التفكير. على العكس من الهواة والمبتدئين، فبالرغم من قلة خبراتهم وضعف إدراكهم، إلا أنهم يبدون أكثر ثقة في آرائهم مقارنةً بأصحاب الكفاءات. إذ إن قلة الخبرة وضعف الإدراك يمنعان الشخص من رؤية حجم تعقيد الأمور والتفطن لمواضع النقص لديه.

وهذا ما نلاحظه كثيرًا، لا سيما على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يوجد من يرى نفسه مؤهلًا للحديث في أي موضوع عام، لمجرد امتلاكه عشرات الآلاف من المتابعين، دون أن يمتلك المعرفة الكافية التي تؤهله لمناقشة قضايا قد تتطلب مستوى عاليًا من الفهم والإدراك. وتكمن خطورة ذلك في أن مئات، بل آلاف المتابعين، ينساقون إلى كلامه ويأخذونه على محمل اليقين، لمجرد كونه مؤثرًا. والأدهى من ذلك أن هؤلاء الذين يعتبرون أنفسهم مؤثرين يبالغون في تقدير ذواتهم، فرغم جهلهم، فإنهم يُظهرون ثقة عمياء أمام الملأ عند طرح آرائهم، تفوق ثقة العالِم، رغم أن الأخير صاحب باع طويل في العلم والمعرفة.

فالفرق بين الجاهل والعالِم أن الأول لا يعلم أنه لا يعلم، فلا يدرك مواضع جهله ولا يرى تعقيد الأمور؛ مما يجعله واثقًا مما يقول بلا أدنى شك. أما العالِم؛ فيعلم أنه لا يعلم كل شيء، فيدرك مدى تعقيد الأمور؛ مما يمكنه من ملاحظة مواطن جهله، ولذلك تراوده الشكوك حول ما يقوله، فتراه مترددًا في كثير من الأحيان خشية الوقوع في الخطأ.

يقول المفكر الإسلامي ابن خلدون: «ينبغي أن يكون لكل أحد من المفتين والمدرسين زاجر من نفسه، يمنعه عن التصدي لما ليس له بأهل». ومعنى كلامه أن على المرء أن يكون متواضعًا، مدركًا لحدود معرفته، وأن يتجنب الحديث في مواضيع لا يمتلك التأهيل الكافي لها. وقد اشتهر عن الإمام مالك أنه حينما سأله أحد طلاب العلم عن أربعين مسألة، أجاب عن أربعٍ منها فقط، وقال في البقية: «لا أدري». فمن أهم ما يُميز العالم عن العوام من الناس هو اعترافه بجهله دون مكابرة. لكن اليوم، نجد أن بعض متواضعي العلم وضحلة الفكر لا يترددون في إقحام أنفسهم في أمور تفوق قدرتهم على الفهم والتخيل.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights