قصة … بقايا امرأة من طين (الجزء الأول)
بلقيس البوسعيدية
أحببت جدتي لأبي -رحمها الله- حبًا جمّا لدرجة أنني كنت أبكي كلما التقيت بها من بعد غياب قصير، فكل أيامي في غيابها تفقد قيمتها وتغيب شمسها. كانت جدتي قادرة بلمسة منها على أن تغرس الطمأنينة في قلبي الصغير، نظرة واحدة من عينيها السوداوين اللامعين كنجمة دافئة في سماء شتاء حزين، كانت كافية كي توقف نزيف روحي من جراح الحياة المرهقة، نصائحها التي ظلت حية في ذاكرتي حتى هذه اللحظة. أنقذتني مرات عديدة وأنا أقف عاجزة أمام حل أمر ما.
إنها جدتي العظيمة التي لطالما أحسست بالفخر وأنا أخبر عنها العالم، أخبرهم عن قلبها الحنون الذي يتسع لضم الجميع دونما تمييز. كنت أراها وهي توزع الحب بكلماتها المحشوة بالدفء والصدق، كنت أسمع ضحكاتها التي تسد وحشة المجالس وتكسر حواجز المجاملات، هي قصة عظيمة من الحب والفرح والحزن والجراح، فبرغم من ابتسامتها التي كانت تشرق من محياها إلا أن قلبها كان لا يخلو من تشوهات الحزن والفقد. كل ليلة كنت أجلس في حجرها وأنا أشتعل بحماس جمرة؛ لسماع قصة جديدة منها، كنت أحب أن أسمع لها وهي تسرد لي القصص التي كانت تخبرني فيها عن سيرة حياتها، عن سنوات طفولتها وشبابها.
أخبرتني جدتي يومًا بأنها حين ولدت كانت الفرحة عارمة في بيتهم الطيني الدافىء، طار والدها فرحًا فور استبشاره بقدومها، كان يعتبر جدتي قدم السعد عليه، كانت هي فرحته الأولى بعد ثلاثة أفراح أخرى، قام والدها بذبح عجل ضخم في يوم ميلادها ووزع منه على على فقراء الحي، ووسع على أهله وأهل زوجته، كما أقامت والدتها حفلة ضمت الأهل والأصدقاء، ووزعت أكياس الحلوى على الأطفال.
كان لجدتي ثلاث شقيقات أصغر منها سنا، أخبرتني كيف كانت تطير فرحًا في يوم مولدهن، وكيف تركض بعفوية وهي تصرخ: “أمي أنجبت لي أخا.”، ولكن فرحتها تنكسر حينما تلمح ذاك الحزن الدفين والمبهم في وجه والدها، الحزن الذي يبدو جليًا عليه حينما تخبره أمها بأنهما قد رزقا بفتاة أخرى، كان حلمه كحلم كل الآباء أن يرزق بولد يبقي على ذكره في الحياة بعد مماته، طال انتظاره كثيرا وبقي الولد بالنسبة له مجرد حلم. أخبرتني جدتي كيف أنها كبرت وأصبحت امرأة لها وجه القمر، قوية البنية، فارعة العود، وعريضة بشعر أسود مسترسل يصل إلى منتصف ظهرها، كبرت جدتي وكبرت معها أحلامها، أصبحت امرأة صلبة تجاهد لتثبت لوالدها بأنها قادرة على أن تكون له السند المتين في حمل ضغوطات الحياة.
كانت جدتي أميّة لا تحسن القراءة والكتابة، إنما كانت على جانب لافت من عمق الإيمان وصدقه، ومن الفطنة والنباهة وطهارة القلب ودماثة الخلق، ذات هيبة توحي بالذكاء والاعتداد بالنفس والالتزام الجاد بأي شيء يطلب منها. أثبتت لوالدها شجاعتها ونجحت في كسب قلبه وثقته العمياء، أصبحت لها حضوه عند أبيها؛ وهذا ما جعلها تشعر بالفخر والامتنان لنفسها.
كان البناء هو أول عمل شاق زاولته مع والدها، كانوا يركبون ظهر الحمير ويقطعون الطرقات الجبلية الوعرة تحت قرص الشمس اللاسع؛ لجمع أحجار البناء اللازمة، كان عملها محصورًا في مناولته الحجارة البيضاء وعجن الماء بالتراب.
كانوا يملكون مزرعة صغيرة، وكانت هي من تقوم بإطعام الماعز، وسقي أشجار الرمان والليمون، والسفرجل وترصيف ثمارها في الصناديق، وتنظيف أقنان الدجاج، وجلب الماء من البئر لثلاث مرات في اليوم وأكثر.
تغيب جدتي في نوبة ضحك كلما جاءت تخبرني عن البقرة الوحيدة التي كانوا يمتلكونها لحرث الأرض، كان لها طعامها الخاص، فقد كانت جدتي تقوم بتحضير قدر خاص بها، تلقي فيه ببقايا الأطعمة وتضيف له الماء ومن ثم تخلطه وتضرم تحته النار لتدفئته وتقدمه ساخنًا لتلعقه البقرة، وبعد ذلك تقوم بحلبها، كانت بقرة من الصعب حلبها إلا من قبل جدتي، وكمْ كانت سعيدة وهي تقوم بحلبها وإطعامها، ثم يومًا بعد يوم كبرت البقرة وأصبحت عجوزًا هرمة لا تعطي حليبًا كما كانت؛ فقام والدها ببيعها في نهاية أحد الأشهر من رمضان.
كان والدها يغني أغنية من تألفينه وتلحينه؛ ليخفف بها وطأة العمل الشاق تحت لهيب الشمس الحارقة، نامت تلك الأغنية طويلًا في ذاكرتها، تذكرها جيدًا لأنه لم يكن بها أي كلمات إلا عبارة (يا معين)، وكانت هذه العبارة تتكرر طوال اللحن.
ظلت رائحة الطين عالقة في ثيابها منذ نعومة أظفارها، وظل نسيم المزرعة يداعب شغاف قلبها.
شوقًا عميقا انتابها إلى تلك الأيام التي علمتها كيف تخلق حياة من ركام الأشياء، وكيف تغرس أحلامًا عظيمة في أرض بسيطة، علمتها الصبر على مر الحياة ولوعتها، علمتها كيف تقاوم الجوع والوحشة والعطش والبرد، وكيف تستحم بضوء الشمس ودفئها.
لطالما شعرت بجراح جدتي الغائرة العتيقة تنفتق وتتنفس فيها كلما جاءت تسرد لي قصة وفاة والدها، وكيف هو الحزن الذي تفرع في صدرها برحيله، لقد كسر موته قلبها وخارت قواها وبقيت تعيش الأيام بشموس غائبة.
قالت ذات مرة بصوت مليء بالتنهد: “بأنها لم تذرف دمعة واحدة في أول ثلاثة أيام من رحيل والدها، أخذت تسير على غير هدى في سفوح الجبال بأوصال ترتعد من شدة الخوف والترقب، لم يصدق قلبها بأنه قد رحل حقًا ولن يعود ثانية، لقد طال انتظارها حتى فقدت الأمل في رجوعه؛ وتفجرت بكاء وأخذت تنتحب بحرقة ومرارة في ليلة كانت شديدة الوحشة.”
استغرقت جدتي وقتًا طويلاً لاجتياز تلك الفترة من حياتها والتأقلم مع وضع جديد اخذت تلملم فيه بقايا امرأة من طين، امرأة اعتادت على صلابة الحياة وقساوتها.
قالت لي ذات يوم بصوت متهدج: “من الحزن العظيم تبدأ ثورتنا كي نبدأ في الانطلاق نحو التغيير، لنتمكن من قلب موازين واقع دواخلنا المؤلم. على الرغم من الألم الذي يسببه الحزن على موت الأحبة إلا أن الحزن يكون أعظم على أحبائنا الذين هم أحياء بأجسادهم على قيد الحياة، ينفطر القلب حزناً ويتألم وجعا، وتبكي العين حسرة على هذا العزيز على القلب، فلا يهنأ لك نوم ولا تطيب لك حياة دون أن ترى ابتسامتهِ تنبثق من قلبه كالفجر، تعيش طوال حياتك وأنت تبذل كل ما في وسعك لتحافظ على قوتك من أجل أن تظل تسنده كلما أحتاج إليك.”