قصة…ذنب لا يغتفر ( الجزء الأخير )
بلقيس البوسعيدية
ذات مساء كنت أسقي النخلات التي تحيط سور منزلنا وأشجار الليمون التي زرعها والدي في فناء المنزل، فتذكرت كلام جديّ عند تلك اللحظة عندما قال لي:
“كل شيء يلمسه والدك يصبح خصبًا ومزدهرًا، وينمو ويعطي ثمر”.
شتّت صوت (عمّي أصلان) شرودي وهو ينادي علي من خارج السور قبل أن يدلف إلى فناء المنزل:
“نيلام؟ … نيلام؟”، أغلقت صنبور الماء ومسحت يدي بطرف ثوبي، وفتحت له الباب ومدّدت يدي لأسلم عليه.
“هل انتهيتِ من توضيب أشيائكِ؟”.
وهل يجب عليّ الذهاب معك؟ قلتها وأنا مطأطأة رأسي بحزن.
“ماذا؟”.
قلت بصوت ملئه الأسى:
“ألا يمكنني البقاء هنا؟”.
تمايلت أغصان شجر الليمون وكأنها تحاول إقناع عمّي ليسمح لي بالبقاء في منزل والدي.
“هل تريدين أن تصبحي مضغة في أفواه أهل القرية كلها، فإنّ سيرتكِ على كل لسان.”
شعرت بنيران مضطربة تتأجّج في قلبي، التزمت الصمت لبرهة ثم انهرت وانفجرت باكية. في تلك اللحظة، عدّت طفلة خائفة بلا حول ولا قوة، بكيت بحرقة لدرجة أن عمّي أوشك أن يبكي أيضًا من شدة التأثر لبكائي.
أخذني بين أحضانه وهو يربّت على ظهري قائلاً:
“كفّي عن البكاء يا ابنتي، أنني أتفهم شعوركِ ولكن قلبي لا يطاوعني على ترككِ وحيدة بين زوايا هذا المنزل الفارغ؛ أخاف عليكِ من الوحشة والوحدة ومن أن يقال عنكِ ما ليس فيكِ، تعالي معي ولنخرج بسلام من هنا”.
أحسست وأنا أغرس رأسي في صدره بأن به شيئًا من دفءِ والدي، من رائحته وشهامته.
لطالما ظننت بأن عمّي رجل بغيض، ولكنه عند تلك اللحظة أثبت لي عكس ما ظننت عنه طوال حياتي. انسحبت من بين أحضانه بهدوء النّسيم وخفته، ونظرت إليه بعيون لامعة تحبس دمع قلبي، وأومأت له برأسي معلنة قبولي واستعدادي لتنفيذ ما طلبه منيّ.
وضبت كل أشيائي، ابتساماتي وذكريات طفولتي، وضبت أحلامي وآمالي، ولملمت دفء أنفاس والدي وملامحه المبعثرة بين زوايا المنزل، جمعت ضحكات جدي وصوته الحاني العالق على جدرانه ونوافذه، مسحت غبار الحزن عن قلبي والتقطت أنفاسي، واستجمعت قوّتي لأغلق باب حكاية عشت فيها أجمل سنين عمري.
كان شعوري آنذاك مزيجًا من الخوف والقلق والتوتر والضعف والذلّ، أسئلة كثيرة اِتقدت في رأسي وأشعلت حماس فكريّ، كيف سأنظر في وجه المرأة التي غرست سكين الغدر في قلب والدي؟ المرأة التي كرهها طوال حياته، المرأة التي تركتني دون أن يرف لها إحساس بالحنين صوبي؟ كيف سأعيش معها تحت سقف واحد؟ وعن أيّ شيءٍ سأتحدث معها؟.
كانت هي أول شخص يستقبلني ويفتح لي الباب بابتسامةٍ ترحيبيّةٍ، شعرت لحظتها برعشةٍ غريبةٍ سرت بمجرى دمي، وددت لو أن ابتسامتها تظل أبدًا، وددت لو أنّي قبلت يدها واحتضنتها وبكيت حرقة شوقي وحنيني إليها طوال سنين، بعدها وددت لو أنّي تركت قلبي ينام على صدرها الدافئ ليبرأ كل جرحٍ نازفٍ فيه، ولكن قلبي لم يسعفني على تحقيق ما وددت، شعرت لحظتها بأن كل أطرافي قد شلّت وأصبحت كحجر أصمّ ألقي في واد مهجور، اكتفيت بالنظر إلى وجهها بتأملٍ شديدٍ دون أن أنبس بكلمة، تنبلج من ملامحها الطيبة كانبلاج الفجر في ليلة قاتمة، كانت جميلة جدًا عكس الصورة التي رسمتها على جدار قلبيّ عندما كنت أختلس النظر إليها من شرفة منزلنا.
سألت نفسي متعجبة: كيف لامرأةٍ جميلةٍ مثلها أن تملك قلبًا معدوم الإحساس، قلب غدار وروح صلبة من نحاس؟!.
مضى على تواجدي في منزل عمّي أسبوع كامل، أسبوع من الشعور بالغربة والضّياع، أفتقد وجود جديّ ووالدي، وأحس بالأسف على نفسي لأن ظروف الحياة أجبرتني على البقاء تحت سقف واحد مع المرأة التي كرهها والدي طوال حياته. كل ليلةٍ تحت جنح الليل أذرف دموعي وانتحب بحرقةٍ ومرارةٍ، ترتعد أوصالي من شدّة الخوف، ليتها فكرت بي قبل أن تتبع قلبها الذي أحب عمّي دون والدي، ليتها قاتلت من أجلي في الوقت الذي كان يستحق أن تقاتل فيه من أجل ابنتها الوحيدة. التفكير في كل ذلك يجعلني أسال نفسي بحرقةٍ: هل كانت أمي ترغب بي حقًا أم أن القدر فرض عليها أن تحملني في رحمها تسعة شهور دون أن يرف لها إحساس تجاهي؟…
ألم تكن التسعة شهور كافية لتمتزج روحها بروحي، ليرتبط قلبها بقلبي؟.
أيقنت في قرارة نفسي بأني لن أستطيع أن أسامح أمي على ما فعلته بي وبوالدي، ولا أدري ما هي حقيقة مشاعري تجاهها، فلا شيء في قلبي المعطوب سوى الحزن وأيادي اليتم التي تمزّق نبضه، لن أستطيع أن أمنحها الحب مهما أغدقت علي بالحنان والاهتمام، سيظلّ إحساس الغربة يلازمني ما حييت قربها، ما ارتكبته أمي في حقنا ذنب عظيم، ذنب لا يغتفر.