2024
Adsense
قصص وروايات

في البوح نجاة

بقلم : بلقيس البوسعيدية

يولد الإنسان شغوفًا بالإفصاحِ عن مشاعرهِ بمنتهى الصدق والحرية، أيًا كانت هي مشاعر فرح، حزن، وانكسار، أو مشاعر فخر واعتزاز، فكل ما يولد في قلبه يتجسد في كل كلمةٍ تنطق بها شفاهه، لا يبالي بمقدار الألم في الكلمات التي تنهمر من فمهِ في حين لحظات حزنه وانكساره، ولا يخجل من إظهار ضعفه أمام من يثق به حين يصير إنسانا ذا روح متصدعة وقلب متهالك.

يولد الإنسان وهو يملك شجاعة كافية لتعبير عن خلجاتِ نفسه، عن كل إحساسٍ ينبض به قلبه، يولد شفافًا، واضح المعالم، واضحا بداخله وخارجة، بلا ملامح غامضة، ولا أقنعة كاذبة، صريحا إذا عاتب من تسبب في نزعِ سلامه، وصادقا أن شكر من أثلج قلبه بكلمةٍ أو موقف منصف، لا يجامل ليكسب ود أحدهم، ولا يتكلف أمام الآخرين لكسب حبهم ورضاهم، حريصا تمام الحرص على تحقيق العدل ما بين ذاته والآخرين، منصفا في وضع حدوده الخاصة ويحترم حدود غيره، فكما يشكو ويعبر عمّا في قرارة نفسه هو أيضًا مستمع بارع لكل من يأتي إليه بقلبٍ عار محاولا تخفيف وطأة الأحاسيس التي تجتاح دواخله.

مع مرور الزمن وتبدّل الظروف وتغير الأماكن والأشخاص، وبعد ألم السقوط وتكرار الخيبات وكسرة عظيمة في الروح؛ يقل لمعان وجهه، ينطفئ بريق حقيقته، ويبرد شغفه في الكشفِ عن أسرار قلبه الدفينة، يتبدل من إنسانٍ واضح المعالم إلى إنسانٍ غامض ذي أسرار مدفونة في عمق روحه، يبدأ في ارتداءِ الأقنعة ليستر بها حقيقة مشاعره، فمع كل خيبةٍ جسيمة؛ يفقد ثقته في الأشخاص معلنا خوفه من كل إنسانٍ يحاول الاقتراب منه، ومع كل تجربة قاسية وكل موقفٍ عاصف يخرج منه بروحٍ ثكلى وقلب مكسور؛ يفقد شغف الحديث عن مكنوناته، فيتعاظم خوفه من ألمِ خيبة جديدة، أو خسارة عظيمة، يعتكف الصمت ويتخذ من الكتمانِ سبيلًا لنجاته، تشيخ روحه من فرط سكوته غير مبالٍ باللحظاتِ التي تسقط من جيوب ساعاته، فكل لحظةٍ تمرّ عليه ساكتًا تأخذ معها شيئًا من بريقِ وجه.

قد يكسر حاجز الخوف من بعد صمت طويل، فيعود يمنح ثقته الآخرين متناسيًا مرارة خيباته الماضية، ومع أول سهم غدر يغرس في عنق ثقته؛ يعود يلملم بعثرة مشاعره ويفر مرعوبًا إلى ذاته، يفقد الأمان بقلوب الآخرين؛ فينزوي مع نفسه ملتحفًا الصمت والهدوء، يجد في صمتهِ نجاة من الخوف الذي كلما هرب منه وجده يتجسد أمامه بصورٍ متعددةٍ ووجوه مختلفة، يجد في تجاهله لأحاسيسه المتضاربة في صدرهِ سلامة تمنحه لحظات خالية من سموم اللوم والعتاب، يهرب من حقيقة ما يشعر به ويكتم شكواه، ويلتزم الصمت في أشدِ لحظاته حاجة للإفصاحِ عن مكنوناته.

تركض به الأيام وهو ما يزال غالقًا على نفسهِ أبواب الكلام، يمضي في طريقهِ بقلبٍ مزدحم بالغصات، والآهات، والآلام المتراكمة من مواقفهِ العاصفة التي عبرت من خلاله، وهزت قلبه وعبثت بموازين سكينته، يجرّ ثقل ذكرياته السوداء متجاهلاً حقيقة وجودها في داخلهِ.

لا يمنحه ذلك التجاهل سوى لحظاتٍ مؤقتة من الإحساس بنشوة السكينة ولذة الاطمئنان، ثم يمضي قدمًا في حياتهِ معتقدًا بأنه قد انتصر على كل تلك الفوضى التي أحدثتها فيه الأيام الماضية من سنينِ عمره الضائعة، إلى أن يأتي عليه يوم يكتشف فيه تبدل مسارات حياته وتغيرّ بعض من تفاصيلها، تكشف له الأيام كل الأحاسيس المكبوتة في عمقه، تطفو أحاسيسه في لحظةِ ما، فتجده يعلن قيامة حربه وثورته على مواقف بسيطة لا تستحق التفات قلبه، لا تستحق نضاله، مواقف يدرك عميقًا بأن لا فوز له منها ولا خسارة، ولكنه الكتمان هو وحده ما جعله يثور كبركانٍ في وجهِ الأشياء والأشخاص من حوله، يفيض قلبه بفوضى عارمة من مشاعر عتيقة خبأها في صدره معتقدًا بأنه قد حقق انتصاره عليها حين اعتنق الكتمان وكذب حقيقة وجودها في داخله.

بعد أن يبرد قلبه وينطفئ غضبه يبدأ في تعداد خسائره، فيجد نفسه قد خسر الكثير وسقط من قلوب الكثيرين، وبات وحيدا مع نفسه، وحيدا رغم ازدحامه بالسائرين، يكتشف أنه قد ارتكب ذنبًا في حقِ ذاته حين اتخذ قراراه في التزام الصمت ووأد أحاسيسه في ظلمة قلبه، بعد أن يتجرع مرّ الحقيقة صابرا؛ تجده يجاهد ليكفر عن ذنبهِ، يشرع أبواب قلبه باحثًا عن أسباب خلاصه من كل تلك الأحاسيس المتكدسة في صدره، يتمرد على خوفه ويطرق أبواب القلوب بحثا عن قلبٍ يأمنه، عن روحٍ تستطيع أن تسمع همس روحه، يستعيد شغف البوح ويعري قلبه دون خوف، يستريح بين أحضان من ألفه، من يدرك يقينًا بأنه جدير بمنحه الثقة ليسكب كل أحاسيسه في قلبه، يجد في البوح نجاة من قساوة كل كلمةٍ ابتلعها دون أن يملك لها جرأة البوح ليحررها من وسط أقفاص صدره.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights