على رصيفٍ عابر
بلقيس آلبو سعيدية
بعد أن أحرقتها السنون وأتلفت فيها معاني الحياة، بعد أن توقف قلبُها لسنوات، وتمزّقت أحلامها، بعد أن غطّاها اليأسُ وصار الأملُ في عودةِ الحياةِ عقِيمٌ، برقت لها بارقة الحياة، من ابتسامةٍ عابرةٍ ساحرةٍ؛ اِنتشلتها من جُبٍّ مُظلمٍ كانت تُقاوم وحشتهُ وظلامهُ بكلّ ما أُوتيتْ من أمل، ورغم الأمل كانت الحياة تستشهِدُ في عينيها كل يومٍ من بعد صراعٍ مُوحشٍ مع الصّبر، لم تكن اِبتسامتُهُ مجرّد اِبتسامةٍ من وجهٍ عابرٍ ساحر، بل كانت نجاة، وحياة، عادت تنبِضُ في عينيها المُبتلّةِ بالأنين لجرحٍ عتيقٍ لم يبرأ حتّى اللحظة التي أحسّت فيها، وكأن تلك العيون من وجه ذاك العابر قد ولجت إلى أبعد زوايا نفسها، ولمست ما بها من جراحٍ نازفةٍ غارقةٍ في مُحيطِ حزن عظيم، نفخت روح الحياةِ في صدرها المهشّم المسكُون بألمٍ دفين، تلك العيون التي نظرت إليها كقُبلةِ حياةٍ على شفاهِ غريق أنعشت كل ميّتٍ فيها، عادت تتنفّس الحياة من بعد غرقٍ مُمِيت، أخذت ترتّب مشاعرها التي اهتزّت وتبعثرت في داخلها مذ أن صافحت عيناها عيناه، أكملت طريقها والحيرة تتناسلُ في صدرها، أخذت تسألُ نفسها في دهشةٍ من أمرها، في حيرةٍ من ذاك الإحساس النّابع من أعماقها الذي ملأها بالِاطمئنان، اِطمئنانٌ لم تعرفه منذ سنين عجاف، إحساسُ كقطراتِ مطرٍ تسلّلت من سحابة شتاء ماطر، سقت جذور الحياة اليابسةِ في جوفها؛ فأزهرت فيها حياةٌ قبل حتى أن يرتدّ طرفُ عينها العالق على أهدابِ تلك العيُونِ العابرة، تسأل نفسها مندهشة مما شعرت به لحظتها:
هل يكون الحبُّ هو ذاك الذي شعرت به وهو يتدفّق إلى قلبها كنسماتٍ عليلةٍ في ليلةِ ربيع هادئة؟ وهل يكون الحبُّ مجرّد صدفة على رصيفٍ عابرٍ؟
هل يمكن أن تلتقي القلوبُ وتألف بعضها من نظرةٍ عابرةٍ كتلك؟
راودتها الحيرةُ ولم تجد جواباً يُعطيها الأمان لتوضّب بعثرة مشاعرها وتعود من حضنِ الشّتات إلى حيثُ التقت عيناها بعينٍ نبضت لأجلها حياة، لِتعُود حيث عاد قلبُها نابضاً من قبرٍ مُعتم خالٍ من ضجيجِ الحياة، أيُّ إحساسٍ هو ذاك الذي يولد من رحمٍ عقيم كقلبها؟ من رحمِ لحظةٍ كلّ ما فيها أشبه بالممات.
لم تستطع أن تترُك الحياة التي رأتها تبتسمُ لها وتحتضِنُ خوفها، عادت أدراجها بلهفةِ طِفل، وكل أطرافها ترتعشُ، خوفٌ ممزوج بالقوّة وهي تُردّدٌ في نفسِها:
يا إلهي، ألهمني القوّة حتى أنظر في عينيه مرّةً أخرى، لأعود وأحيا مرّةً أخرى.
طوت بخطواتها المتلهّفة ظمأ المسافات، ووجدت نفسها منتصبةً أمامه كشجرةٍ عاريةٍ من أوراقِ الحياة، بلا ماضٍ، بلا ذكرياتٍ، تقف أمام عينيهِ على بُعدِ مسافةٍ بسيطة، مسافة كافية لأنْ تترك قلبها المرتجف يسكن ويخلع خوفه بأمان بين أحضانه.
أخذت شهيقاً أشعل صدرها بحماسٍ وجرأةٍ لأنْ تبدأ حديثاً وليد لحظة حاسمة، وما أن بدأت في تحريكِ شفتيها لتفرّغ الكلماتِ المتكدّسة في فمِها النّابعة من قلبها حتى لمحت شُرُوق امرأةٍ ناعمةٍ جميلة، ترتدِي فستاناً زهريّاً كخدّيها، تلوّح له وتزرع بين المسافاتِ قُبُلاتِ عشقٍ يافعة في هواءٍ كلّ ما فيه يتنفّس بِحُبّ، تقترب منهُ بشوقٍ وحنينٍ وكأن الأحاسيس التي تربط قلبيهما تتعاظم كلّما شارفت على الِاقترابِ مِنهُ أكثر، يلتفت إليها بلهفةٍ، يقبّلُها بشوق، ويضُمُّها إليهِ وكأنها قد عادت إلى أحضانهِ من بعد سفرٍ طويل.
أيّ حُزنٍ هو ذاك الذي نبت في قلبِها ساعة أدركت بأنّ من منحها الحياة للحظةٍ قد أصاب قلبها بطعنةٍ قاتلة، لا ذنب له فيها سوى أنّ قلبها نبض بالحياةِ حين الحياة برقت لها من عينيه.
يا لَحجم البُؤسِ الذي أخذ ينحتُ وجهها بدقّةٍ وبراعةٍ، منحوتةٌ معجونةٌ بالحُزن، تئنّ بصمتٍ وتستشهِدُ بصمتٍ، وكأن الحُزن نصيب قلبها، والبُؤسُ عاشقها الوحيد الذي ضمّ أفراحها وظلّ يقتاتُ من عمر ابتسامتها دون أن تملك رفاهية البوح عنه، أيّ حُزنٍ هو ذاك الذي سكن داخلها، مدّ جُذُورهِ في عمقِ روحها، مدّ ظلاله الوارفة تحت عينيها وهي صامتة، ساكنة، تتساقط الحياة من عينيها تباعاً، وكلّ ما فيها يشهدُ على موتها بطعنةِ أنين، تبتلع شهقات بُكاءٍ خرساء أخرست لذّة الحديثِ على لسانها، فالصّمتُ سيّد قلبها، هو اللّغةُ الوحيدة التي تنطقُ بها شفاهها مذ أن لقيت حتفها على رصيفِ نظرةٍ عابرة ساحرة عبثت بموازين أحاسيسها؛ جعلتها تُحاسبُ نفسها وتنظرُ إلى حالها المهترئ وهي تتسوّلُ سعادتها من جيوبِ العابرين، وهي تائهةٌ مع نفسها كمُشرّد فقير ضائع بلا مأوى ولا وطن، وحدها تلك العيون أعادتها إلى ذاتها لتُحاسب نفسها وتقفُ عاريةً أمام حقيقتها، حقيقة أنّها قد أهملت روحها وتركت قلبها يتخبّط بوجوهِ السائرين، باحثةً عن رشفةِ حُبّ تروي جفاف روحها العطشى، لقد تجرّعت الحُزن بما يكفي لجعلها تهرب من ذاتها وتكره روحها التي تئنُّ حُزناً، وتتنهّد يائسة من الحياة، التي تقاوم انطفاءها كل حين بين جدران جسدها الهزيل، تكره نفسها وتهربٌ من ذاتها إلى حضن الشّتات، وما أن تبرُق لها بارقة الحياةِ من وجهٍ عابرٍ حتّى تجد روحها تُمارسُ الفرح لعمرٍ قصيرٍ ثم تستشهدُ فيها قبل أن تستلذّ بنشوةِ الحياة.
تلك الابتسامة السّاحرة الخاطفة أرجعتها إلى نفسها بعد أن تلاشت أمام عينيها ببراعةِ الضّباب وهو يذوبُ في صدرِ ليلةٍ باردةٍ مظلمة نحو الغياب، لقد أدركت بعد تكرار السّقوط وسوادِ الخيباتِ المترسّب بين ملامحها التي تشهدُ على مدى بشاعةِ ما عاشتهُ، وهي فارغةٌ من إحساسِ الحُبّ لذاتها، حقيقة أنها لن تستطيع أن تشعُر بلذّة الحياة ما لم تحب نفسها أولاً، ما لم تتقبّل ذاتها وتعشق تفاصيلها حتّى والبسيطةِ منها، لن تشعر بقيمة الحياة الحقيقة ما لم تُقدّس لحظات فرحها دون أن تترُك للحزنِ مجالاً لأنْ يقتحم قلبها الصّغير، ويُقيم فيه مدافن لأحلامها، لقد أدركت بأنّها قد أضاعت أجمل سنين عُمرها وهي تُفتّش عن سعادتها في جيوبِ الطُّرقات، في لمعانِ الأشياءِ واهتماماتِ الآخرين، لقد أفاقت من غفوةِ جهلها حين استطاعت أن تلمِس تلك الفرحة التي أخذت تتنفّسُ بلهفة وسط صدرها وهي تنعمُ في سكونٍ تامٍّ مع نفسها.
لقد أدركت أنها تستطيع أن تخلق سعادتها وتستلذُّ بنشوةِ الفرح وهي تجالسُ نفسها فقط، أدركت بأنّ سعادتها ليست مقرُونةً ببقاء أحدهم أو غيابه، لم تكن السّعادة بذاك البُعد الذي خُيّل لها وهي تتسوّلُ الحُبّ على أرصفةٍ العابرين، وهي تنتظرُ عطفاً من أحدهم ليُعيد نفخ روح الفرح في قلبِها الصّغير، أدركت أنّها وحّدها فقط من يستطيع جعلها سعيدةً في جميع أوقاتها، في كلّ حالاتها، حتّى وإن كانت يائسةً ووحيدةً في عالمٍ بائسٍ لا ينطقُ بشيءٍ سوى الصّمت.
تلك الابتسامة العابرة أعطتها إحساساً جعلها تعشقُ تفاصيلها حتّى وهي في أشدّ لحظاتها يأساً وانكساراً، عاد إحساسُها بالحياةِ ينبضُ في جوفها كجنين مُمتلئ قلبهُ اليافع بلهفةٍ للعيش والخروج من رحِم الظّلام إلى نور الحياة ووسعِها، ليعيش دهشة الشعور لأوّل مرّةٍ، ويبصر جمال الأشياء لأوّل مرّةٍ، ليصرُخ صرخة الصّفر ويُعلنُ للحياةِ عن رغبتهِ الجامحة للتمتُّع بها. تلك العيون العابرة من ذاك الوجه العابر كانت بمثابة صفعةٍ؛ جعلتها تستفيقُ من غفوةِ جهلها، لقد أدركت أنّ سعادتها لم تكن بذاك البُعد الذي تصوّرتهُ وهي تجوبُ الطُّرقاتُ باحثةً عنها، أضاعت سنين عمرها وهي ضائعةٌ مع نفسها تبحثُ عن سعادتها على أرصفةِ الطُّرقات ووسط ازدحام السّائرين، كانت تتسوّلُ الحُبّ على أرصفةِ العابرين باحثةً عن إحساسٍ يجعلُها تشعُر بنشوةِ الفرح.
لقد أفاقت من غفوةِ جهلها وأدركت خطأها حين اِتّكأت على البشر وربطت سعادتها بهم، أدركت بأنّ سعادتها ليست سوى جنين ضعيف صغير ينبضُ فيها ولا يحتاجُ منها شيئاً سوى الاهتمامِ به، والالتفاتِ إليه، والإيمان التّامّ بوجوده فيها.