الحــبــر
إبتسام الخميري
حدّقتْ مليّا في إصبعها. صرختْ بصوت مكتوم: “يا إلهي ماذا يحدث؟ الآن على التوّ كانت قد غمست إصبعها في قارورة الحبر… لقد كان الإصبع أزرقًا فاقعا، إذن كيف اختفى الحبر؟؟ كيف حدث ذلك؟؟
انتابها الشكّ: تراها لم تغمسه أصلًا في الحبر؟؟ تراها لم تمارس حقّها في الانتخاب؟؟
تَذْكُرُ منذ شهرين كيف كانت وسائل الإعلام بكل أنواعها، من مسموع ومرئيّ، تسوّق للأمر وتشجّع على عمليّة الانتخاب كحق وواجب لكلّ مواطن بلغ سنّ الثامنة عشر… تذكر كيف كانت وصديقاتها في العمل يتجاذبن أطراف الحديث ويقهقهن:
-لا أظنّ الوضع سيتغيّر.. ما باليد حيلة، جماعة من اللّصوص قد تقاسموا خيرات البلاد، ثمّ وزّعوا المناصب والكراسي فيما بينهم.
-لا، كيف تجرئين على قول ذلك؟؟ نحن النّخبة المثقّفة بهذا الوطن هكذا نفكّر؟؟ حتمًا سيكون الغد أفضل عندما يمارس كلّ واحد منّا حقّه في الانتخاب.
و تقاطعها قهقهات عالية مدوّية تعلو المكان فيضيع الصّوت مع الزّمان والمكان…
-ما أروع عطرك.
-إنّه هديّة من زوجي، حقيقة أجبرته على ذلك.
-ههههه، أنت قويّة.
-أنا إمرأة عربيّة بكلّ ما تعنيه الكلمة وكفى.
-ربّما… علّمينا إذن.
-لا أهتمّ لرأيك ما ما دام زوجي يعبدني حدّ القداسة.. لقد أمضينا معًا سنوات عجاف لم تنعم علينا لا السّماء ولا الأرض.. كان الصّبر مؤنسًا لنا لحظة الوحشة.. تراه يبخل عليّ اليوم بعطر فرنسيّ فاخر؟؟ لكن…
-كيف اختفى الحبر؟ كيف؟
هذا الصّباح نهضت على غير عادتها، بل هي لم تنم أصلا. كيف يغمض لها جفن وهي على موعد جدّ مهمّ ومصيريّ…
ها هي تدوخ في نداءات باهتة غير واضحة.. صور تتداخل أمامها… يأتيها الصّوت متهدّجًا صارمًا يقر:
-ستحصلين على حقّك، وعلى حقّ أبناءك فلا تنزعجي.
تصمت حينما تتعالى الوعود وتتواصل:
-نعم اليوم يكتنفه بعض الغموض، بعض الضّباب يعمّر حياتنا جميعا.. لكن بإذن اللّه سينقشع الضّباب ويسطع نور الشّمس…
ثمّ، يأتيها صوت مقدّمة النّشرة الجويّة:
“بعض الضّباب يغطّي كامل البلاد صباحًا، بعد ذلك ينقشع تدريجيًا إلى أن يصفو الجوّ تماما”
و يختلط الصّوت مع أصوات النّسوة يصرخن فيها:
-انتظري دورك، عليك احترام نظام الصفّ، ألم ترينا؟؟
-لكنّ ابني حرارته مرتفعة جدّا أرجوكنّ، إنّه صغير وجسمه ضعيف لا يتحمّل.
-إذن عليك بمصحّة خاصّة… ههههه، وتنحدر المدامع من مقلتيها حارقة كأنّ سكّينا انغرس بأعماقها الحزينة على الدّوام…
من جديد تعيدها الأصوات صارخة:
-هيّا تقدّمي سيّدتي حان دورك.
تفتح عينيها لتراها أمام واقع واضح لا لبس فيه: منذ الصّباح هرولت إلى مكتب الاقتراع لتدلي بصوتها، لتعلن أنّها تحتاج غد أجمل ومستقبل أفضل لأطفالها، إنّها لن تنظر إلى الوراء، لن يعنيها الآن أن تعرف من سفك دماء زوجها أمام بيتهم وهو يغادر إلى العمل… لن يعنيها أن تحصل على منصب أو أن يراها السّواد الأعظم من النّاس وهي تعتلي المنصّات التّلفزيّة ويكتب تحت صورتها بلون الدّم: “زوجة شهيد”…
كلّ ما يعنيها أن تسير في الطّريق مرتاحة البال في أيّ ساعة من الزّمن، خاصّة قبل الغسق، كلّ ما يعنيها أن تحمل ابنها للمستشفى فتتسارع أيادي الرّحمة قبل أن تنطق الألسن: “سلامته” فتطمئنّ روحها وتهدأ لأنّها ليست وحيدة…
كلّ ما يعنيها أن تسير في طرقات نظيفة معبّدة ويتسرّب إلى مسمعها صوت فيروز الصّباحي: “شاايف البحر شو كبير قدّ البحر بحبّك…”
فترقص أغوارها طربا: “قدّ البحر بحبّك يا وطني..”
لكن أين اختفى الحبر؟؟
الآن صار مؤكداً إنّها غادرت منزلها باكرا محمّلة أملا وفرحا.. لتمارس حقّا لن تفرّط فيه مهما حلّ بالكون..
فكّرت: “ربّما لم تغمس إصبعها أصلا في القارورة.. ربّما قامت بكلّ المراحل لكنّها نسيت أن تقوم بالمرحلة الأخيرة: أن تغمس إبهامها. إنّها دائمة النّسيان في هذه الفترة الأخيرة لشدّ ما تراكمت عليها المسؤوليّات والواجبات الحياتيّة ولا تجد من يساعدها أو من تعوّل عليه.. لا تثق في أحد. ذلك طبعها.
“إذن ما الفائدة من المجيء أصلا.. والاستيقاظ باكرا.. ثمّ هي انتظرت طويلًا دورها… لم ترد المغادرة قبل أن تتأكّد من أنّها فعلًا قامت بواجبها الانتخابيّ على أكمل وجه.. و أنّ الحبر يجب أن يبقى لأيّام على إصبعها..
حقّا، تذكر أنّها قد قامت بغمس السبّابة لليد اليمنى عوض الإبهام لتؤكّد لأغوارها أنّ الانتخاب بالنّسبة إليها تماما مثل الشّهادة تضيفه إلى فرائض العبادة..
لكنّ اختفاء الحبر على سبّابتها جعلها تعيد الوقوف من جديد في صفّ الانتظار وإعادة ولوج قاعة الاقتراع..
مرّ الوقت رتيبا متثاقلا وهي تعيد الكرّة عديد المرّات.. تقف في صفّ الانتظار لتصل القاعة، يأتي دورها، تتقدّم فتسمع أحد أعضاء مكتب الاقتراع يؤكّد لها:
– سيّدتي شكرا لك، لقد قمت بواجبك على أكمل وجه.
لكنّ اختفاء الحبر على سبّابتها حيّرها. أربك تفكيرها.. راحت تسأل كلّ من حولها:
-رجاء، اُنظروا معي هل من أثر للحبر على إصبعي؟؟
فيبتسمون ولا يجيبون.