شموسٌ غائبة
بلقيس آلبوسعيدية
ما أن شعرت بتعافيها الجزئيّ من جرحِ فقدها لوالديها حتى قطعت عهدًا على نفسها بأن تكون الأم العطوفة والأب الرّؤوف لإخوتها الصّغار: عمر، وعمّار، وعامر.
دائمًا ما أرادت أن تجعلهم يشعرون بوجودها في حياتهم دون أن يطرقوا الأبواب بحثًا عن مأوًى يضف قلوبهم اليتيمة، كانت لهم الحضن الآمن وقلب الأم الرؤوم، والأب العطوف والصّارم في أحيانٍ أخرى، تطبخ لهم ألذّ وأشهى الوصفات، أطباقها كانت ممزوجةً بنكهة الخوف دائمًا، الخوف من أن تأتي عليهم ليلة ينامون فيها على معدّ فارغةٍ، تغسل ملابسهم بيدها الرشيقة؛ ليظهروا في صورة أنيقة، وفي صباح كل يوم توصّلهم إلى المدرسة مشيًا على الأقدام، ترسل لهم قبلات ذات أجنحةٍ من حبٍ في الهواء، وتلوحُ لهم الوداع بلهفة على أن تعود إليهم ما أن ينتصف النّهار، وحين يأتي المساء تقف أمامهم بشموخ وترتدي رداء المعلّم؛ لتسعفهم في مراجعة الدروس وحل واجباتهم المدرسيّة.
كانت فتاة جميلة رغم البؤس الذي يرقد في عينيها، والحزن الذي يقاسمها ملامح وجهها. كانت فتاة ساحرة، جمالها ينبع من داخلها، فجمال روحها ونقاء قلبها جعلا كل من ينظر إليها يقع في حبّها، كانت تأسر القلوب وتأخذ العقول من النظرة الأولى، تقدم لخطبتها العديد من الرجال، أنبلهم وأشجعهم ولكنها دائمًا ما كانت ترفض فكرة الزواج؛ فهي لا تريد أن تترك إخوتها الصغار أو أن تنشغل عنهم في خدمة زوجها وتكوين أسرة جديدة.
مضت السنوات وكبرت أقدام إخوتها الصغار، صاروا يقطعون المسافات لوحدهم، يسابقون الزمن ويعبرّون حدود المدن دون أن تسير هي إلى جانبهم، كبرت رؤوسهم وأفكارهم وأصبح لكل واحدٍ منهم خارطة طريق تأخذ به إلى حيث يشاء، إلى حيث أحلامه وأمنياته، أصبح لكل واحدٍ منهم هدف وغاية يسعى للوصول إليها بكل ما أوتي من إصرار وحكمة.
ها هي شمس العاشر من تموز تشرق بوجهها الشّاحب لتعلن عن ساعة السفر، فقد قرر إخوتها أن يسافروا إلى مدينة بعيده؛ ليلتحقوا بجامعات مرموقة ويكملوا تعليمهم وسعيهم في تحقيق وإثبات نجاحهم.
حانت لحظة الوداع، وما أقساها من لحظة وداعٍ على قلب ريما، لحظة وداع مظلمة، عديمة اللهفة لا تشبه تلويحاتها تلويحة الوداع التي اعتادت عليها عند باب المدرسة، فهي أشدُّ مرارةٍ، وظلامًا، وضياعًا، وأعمق انكسارًا، تتجرّع مُرّها صابرة بشموخ يكاد أن يخون ثباتها ويعطيها للسقوط، لم تدرك بعد بأنها ستصبح أسيرة محطة غياب وتلويحة وداع أخيرة.
ودعتهم وهي لا تدري متى سيعودون إلى أحضانها من جديد، بل ولا تدري أن كانوا سيعودون إلى أحضانها أم لا..
ظلَّ يراودها إحساسُ غريبّ لم ينجب في قلبها سوى المزيد من القلق والحزن، جاء ليهمس لها بأن لحظة الوداع هذه هي اللحظة الأخيرة التي ستجمع ما بين قلبها المفجوع وقلوبهم اليتيمة.
مذ أن رحلوا وهي لا تجيد مهنة سوى تعداد الأيام، تحسبُ الأيام المتساقطة من عمرها يومًا وراء يوم؛ على أمل أن تصل منهم رسالة تطمئنُ قلبها المشغول والمفجوع على رحيلهم. أستمرت الأيام في التساقط إلى أن تراكمت إلى سنين دون أن تصل منهم أيةَ رسالة تبرد على قلبها الملتهب شوقًا إليهم، لم تفقد الأمل في عودتهم إلى أحضانها رغم السنين التي تساقطت من على أكتافها، تشيخ هي ويأكل الوقت من بريق ملامحها دون أن تلحظ ذبولها وانطفاءها يوم بعد يوم.
لا يزال همس ذاك الإحساس الغريب يتردد صداه بين زوايا عقلها وقلبها، لم تستطع الفرار منه رغم محاولاتها لخلق أسباب تنسيها إياه، لم تفلح في صرف تفكيرها فيه أو ترتيب بعثرة مشاعرها التي تناثرت فيها كأوراق خريف باهتة جافة، تعبث بها الرياح وتركلها على أرصفة الحنين.
كانت تلجأُ إلى الكتابة دائمًا كلما شعرت بأن قلبها على وشك الانفجار بسبب ما تكتمه من مشاعر وأحاسيس مثقلة، لم تكن تعرف طريقة لتعبّر فيها عن خلجات نفسها سوى بالكلمات الساكتة الساكنة على سطور أوراقها، فالكتابة بالنسبة لها صراخ، بكاء، انهيار، حزن، ومزيج من مشاعر عديدة لا تملك رفاهية البوح عنها.
أخذت دفترَها ونفضت عن وجهه الغبار، فتحت صفحة بيضاء لتفرغ أحاسيسها -كما اعتادت أن تفعل في نهاية كل يوم قبل أن تخلّد إلى النوم- تكتب في دفترها رسائل لا يقرؤها أحد ولكنها لطالما تمنت لو أن يأتي يوم ويقرؤها إخوتها، فكل رسالة كتبتها وتكتبها هي موجهة إليهم، إلى قلوبهم..
” إلى قلب كل من: ( عمر، عمار، وعامر )، لقد عشت الأيام في غيابكم وأنا أنسج أثواب الأمل لعودتكم في يوم ما، لقد كان شتاء الوحدة خلال أعوام غيابكم قارسٍ وقاس جدًا عليّ؛ لم أجد معطفًا يدثر قلبي المرتجف ولكنني دائمًا ما كنت أخلق لنفسي طريقة للحفاظ على ما تبقى من دفءٍ في صدري، كنت أهرب بقلبي المرتعش من قسوة شتاء الوحدة وأرتمي في أحضان ذكرياتنا معًا، وحدها الذكريات الدافئة هي التي ظلت تسعفني في غيابكم..
أصواتكم، ضحكاتكم، أنفاسكم كانت كفيلةً لأن تسدّ جوع اشتياقي إليكم، ولكن العجيب في الأمر هو أن شوقي إليكم لا ينطفئ رغم محاولاتي الدائمة لإشباع وسدّ جوعه من ملامحكم العالقة على جدران ذاكرتي، بل ويكبر كل يومٍ ويزداد جوعًا ورغبة للتمتع بلذّة عناقكم، أنام كل ليلةٍ على وسادة مبلّلةً بالأمل في أن يأتي بكم الصباح ذات يوم مشمس، ووحده ذاك الأمل أخذ يزيد من حزني وعمق انكساري، فكل صباحاتي كانت حزينة وكئيبة، لم تشرق شموسها منذ آخر تلويحة وداع بيننا، وأنا أشعر بأني قد هرمت تمامًا -ككلماتي- هذه التي تذوب حنين على سطور أوراقي، أنني أتلاشى شيئًا فشيئًا وأغيب عن ذاتي، أجر أنفاسي الثقيلة بإعياءٍ شديدٍ، أتنهد حزنًا يكاد أن يمزق روحي، أخاف أن تأتي اللحظة التي سأشعر فيها بطعم الخيبة وهي تذوب بمرارة في قلبي، لا أريد أن أصدق حقيقة خذلانكم لي، لا أريد أن أشعر بالندم وهو يصفع روحي، ويعضّ على قلبي أسفًا على سنين عمري الضائعة على رصيف انتظار لوعود زائفة لن تأتي، لن أعاتبكم ولن أغضب عليكم، سأكفر بهمس إحساسي الغريب وسأترك باب العودة بيننا مفتوحا، سأنام كل ليلة على أمل أن تشرق الشمس في يوم ما.”
أي قلبٍ هو ذاك الذي تملكه ريما، لا يزال ينبض بنفس المشاعر والأحاسيس لإخوتها رغم إدراكها لحقيقة خذلانهم لها، أي روحٍ هي تلك التي تتنفس فيها أملاً رغم اليأس الذي يعصف بها من كل جانب.
وحده الحبّ هو ما يجعلها تصفح عنهم وتخلق لهم الأعذار رغم الإحساس النازف فيها من ألم. الأمل النابض في أعماقها كان كافيًا؛ لتشعر بالحياة بعد أن تجرّع قلبها مرارة الغياب، وسكبت الليالي الموحشة ظلمتها في قلبها المفجوع.
نامت على أمل أن يأتي بهم الصباح..
ولكن يبقى السؤال المحير!..
هل سيعودون حقًا، أم أنها ستعيش الصباحاتِ القادمة من عمرها دون شموس؟