الاستعمار الثقافي، سرطان ينتشر
عصام بن راشد المغيزوي
عادة ما يرتبط مفهوم الاستعمار باحتلال دولة لدولة أخرى، أو رضوخ شعب دولة لأحكام دولة أخرى وقوانينها، وفي عصرنا الحالي اتسع هذا المفهوم ليشمل مفهوم الاستعمار أيضًا مفهوم الاحتلال الفكري، وهو ذلك الاستعمار الذي يهدف لتغيير الأفكار الدينية والثقافية والتاريخية لمجتمع معين بهدف السيطرة عليه فكريًا؛ لتنفيذ مجموعة من الأجندة الخفية، والتي تهدف في مقامها الأول لزعزعة استقرار ذلك المجتمع، وتغيير بوصلة طموحاته وأفكاره المستقبلية. فلكل مجتمع صفات وخصائص تميزه عن باقي المجتمعات، فكل مجتمع يستمد سماته ولونه المميز من عدة منابع مختلفة: كالمنبع الديني، والمنبع الحضاري، والمنبع اللغوي، والمنبع التاريخي، وغيرها.
إن لوحة المجتمع المميزة ترسم بمزج مجموعة مميزة من الألوان، والتي لا تتوافر في المجتمعات الأخرى، فالحفاظ على الموروث الديني والثقافي واللغوي هو ما يضفي التميز على المجتمعات.
لقد عمدت الدراسات والأبحاث للحديث عن الاستعمار السياسي، والاستعمار العسكري، والاستعمار الاقتصادي. فنادرًا ما نجد دراسات أجريت لبيان الآثار السلبية التي يخلفها الاستعمار الثقافي في المجتمعات، بالرغم من أن الاستعمار الثقافي أخطر وأنكى من غيره، وربما يكون السبب الرئيسي لندرة الأبحاث في هذا المجال هو لتسهيل تسرب هذا النوع من الاستعمارات إلى دولنا، فخطورة تغيير هوية شعب ما وعاداته وتقاليده وثقافته أمر سيجر الدولة المحتلة إلى يد المحتل دون مقاومة وخسائر عسكرية وبشرية تذكر. لم يخل استعمار في العالم إلا وقد مارس هذا النوع من الاستعمار، كون هذا النوع من الاستعمار سيضمن استمرار أفكار الدولة المحتلة في الدولة المستعمرة لسنوات طويلة.
إن بقاء هذه الأفكار والعادات سيعمل على عدم توفير الاستقرار المطلوب للدولة المستقلة لفترات طويلة دون أن تشعر الدولة المحررة بهذا، مما سيُسهم في خلق مناخ من الاضطرابات لتلك الحكومات التي تبحث عن بسط سيادتها الكاملة.
إن ما يلاحظ في الاستعمارات قديمًا، هو وجود مفكرين ورجال الدين في الصفوف الأولى للعدو؛ حيث تسعى هذه البعثات لنشر أفكار الطبقة الحاكمة؛ لإيمان هذه الطبقة بأن ترسيخ أفكارها هي أولى خطوات الاستعمار الحقيقي، والحل السحري لتوطيد مكانتها وشرعيتها في المنطقة المحتلة، وفي وقتنا الحالي لم يعد رجال الدين والمفكرين بحاجة لقطع مسافات طويلة لطرح أفكارهم؛ فظهور العولمة اختصر المسافات وسهل طريقة إيصال الأفكار. فعلى الرغم من المنافع التي لا تعد ولا تحصى التي جادت بها مواقع التواصل الاجتماعي، فإنها أصبحت بيئة خصبة لطرح الأفكار الغريبة، وقنوات لتصدير العادات الدخيلة إلى مجتمعاتنا. بجانب دور قنوات التواصل الاجتماعي في تغريب ثقافة المجتمعات، فإن وجود أكثر من ثقافة في مجتمع واحد أمر قد يؤدي إلى اندثار ثقافة وفكر ذلك المجتمع، بل قد يؤدي إلى انقياد ذلك المجتمع للمجتمعات الأخرى.
وفقًا للإحصائيات الصادرة عن المركز الوطني للإحصاء والمعلومات فإن عدد سكان سلطنة عمان ارتفع في عام 2021م بنسبة 1.04 بالمئة مقارنة بعام 2020م ليصل إلى 4 ملايين و527 ألفًا و446 نسمة مقارنة مع 4 ملايين و481 ألفًا و42 نسمة عام 2020م. شكلت نسبة العمانيين 61.94 بالمائة من إجمالي عدد السكان؛ إذ بلغ عددهم مع نهاية ديسمبر الماضي مليونين و804 آلاف و117 نسمة. فيما شكل الوافدون نسبة 38.06 بالمائة من إجمالي عدد السكان ليبلغ عددهم مليونًا و723 ألفًا و329 نسمة وافدًا (1).
فعلى الرغم من ميل كفة الميزان للعمانيين، فإن الفارق لا يعد شاسعًا بدرجة كافية. ففرصة أن يتم استعمار وطننا الغالي يعد أمرًا واردًا وذلك عبر سعي بعض الدول والمنظمات لنشر أفكار ومبادئ تخالف تعاليم ديننا الحنيف، وعادات لا تناسب عادات مجتمعنا الأصيلة، وعراقيل وهمية تهدف لإبعادنا عن استخدام لغتنا العربية الجميلة.
فوسائل المستعمرين وإن اختلفت شكلًا فإنها تهدف إلى إعادة صياغة الفكر الثقافي مع ما يناسبها ويخدم مصلحتها، وذلك من خلال عدة وسائل، كاللغة والعادات والتقاليد. فعند إلقاء نظرة سريعة على الخريطة اللغوية للعالم، سنجد أن لغة المحتل تصبح اللغة الرسمية للدول المستعمرة، فعلى سبيل المثال نجد اللغة الفرنسية هي اللغة الرسمية في الكثير من الدول التي كانت سابقًا مستعمرات فرنسية، كالسنغال وتشاد، وتعد اللغة الإنجليزية اللغة الأولى في العديد من الدول التي سبق احتلالها من بريطانيا سابقًا، كجنوب أفريقيا والهند وهذا إن دل على شيء ما فإنما يدل على إصرار الدول المحتلة على تصدير لغتها لمستعمراتها، حتى بعد زوال احتلالها السياسي.
إن انتشار هذه اللغات في مواقع التواصل الاجتماعي بالإضافة إلى ضعف الاهتمام باللغة العربية، وتوجيه أصابع الاتهام بالرجعية بشكل دائم للغة العربية، أمر قد يعرض المجتمع للانسياق خلف المجتمعات الأخرى، وهو ما قد يُنشئ مجتمعا منقادًا لتنفيذ أجندة المجتمعات الأخرى دون شعور. ومن هنا فإني أدعو فئات المجتمع المختلفة لإعادة التفكر في المصطلحات والكلمات اليومية التي عادة ما يتم التواصل بها فيما بينهم أو في مواقع التواصل الاجتماعي. من الوسائل التي تعمد بعض الدول لاستخدامها لتبسط نفوذها على الدول الأخرى هي عن طريق تغيير العادات والتقاليد، فمع التقدم التكنولوجي الكبير، فقد قامت بعض الدول بالتأثير في الدول الأخرى، وذلك عن طريق التحكم في العادات وفي التقاليد للمجتمعات الأخرى، وقد وصل بهم الأمر حد التدقيق في أبسط التفاصيل كالمأكل والملبس وغيرها.
إن الدراسات العميقة التي قامت بها دول الاحتلال في التأثير في فكر الإنسان وجعله يتبنى سلوكيات جديدة. كما أن إنشاء بيئة مضربة سلوكيًا خطوة مهمة لتحضير المجتمعات لتقبل الأفكار المصممة مسبقًا، وحتى تتم هذه العملية بسلاسة تامة يتم تعريض المجتمع إلى مجموعة من الأفكار والبرامج التي تبث عبر مدار الساعة على شاشة التلفاز أو منصات التواصل؛ كون هذه الوسائل أضحت السبيل الأول لتلقي المعرفة والثقافة ومصدرًا للترفيه والتواصل الاجتماعي.
لقد استفحلت أزمة فكرية وثقافية في جسد وطننا الغالي؛ حيث تنامت وانتشرت بذور الغرب في جنانا، فالكثير من العادات الشيطانية التي يحاول الغرب أن يروج لها تحت مسمى الحرية ما هي إلا سموم يحاول مفكروهم حقن الجسد العربي بها، فالتنمر والمثلية والعنصرية وغيرها الكثير من العادات والسلوكيات والأفكار التي تحاول بعض المنظمات والمجتمعات الغربية تصديرها لوطننا وغيره من الأوطان، ويكمن الخطر الأساسي في عملية استعمار العقول في قابلية توجيه أصحابها لتنفيذ أجندة مختلفة، وفي أوقات محددة دون إدراك أصحابها بخطورة أفعالهم. من خلال ما سبق ذكره لا بد يتضح لنا جليًا أهمية وجود إعلام وطني يروج للعادات والتقاليد الوطنية، ويحذر من مغبة الانجذاب للعادات الغربية والسلوكيات التي تتناسب مع تعاليم ديننا السامية، كما أن دورًا عظيمًا لا بد أن يلعب من قبل النخب الثقافية في المجتمع؛ وذلك عن طريق تبني مشاريع ثقافية نابعة من جذورنا الإسلامية والعربية ابتداء من الفصول الدراسية مرورًا بمختلف قطاعات الدولة؛ وذلك للتأكد من عدم وجود شوائب في هذه القطاعات.
إن التمعن في الماضي، وإعادة تقييم الحاضر، ووضع خطط للمستقبل من خلال منظور ديني ثقافي سليم، حاجة ملحة؛ وذلك للتفرد والتميز بصورة مجتمع إسلامي الهوية عربي الجوهر؛ لنتميز عن غيرنا من المجتمعات، ونظهر روعة مبادئ ديننا الحنيف وجوهر أحكامه، لنفاخر بلغتنا العربية، ولنتأمل في جمال كلماتها؛ فنحن لم نخلق يومنا ليتم استعمارنا من قبل المجتمعات الأخرى ولكن لنصدر أفكارنا إلى العالم.
____________________
(1) المركز الوطني للإحصاء والمعلومات.