القروي والعاصمة.. (6-15)
خميس بن محسن البادي
من خلال الجزء السابق عرفنا أن أم شكيل أخذت منه موقفاً نتيجة زواجه من العاصمة بينما تعرض هو لحادث سير في أثناء عودته من القرية التي انقطع عنها بسبب الحادث لمدة من الزمن، ولكنه حين زارها والتقى بوالدته وأعلمها بما تعرض له وأوضح لها خصال زوجه؛ قبلت منه عذره وزالت الجفوة بينهما على وعد منه بالمجيء في المرة المقبلة ومعه جهينة..
في العاصمة بدأ شكيل يحسّن من وضعه المادي من خلال اشتغاله في التجارة بمشاريع صغيرة جداً إلى جانب عمله في الوزارة، وجهينة من جانبها تدعم جهوده نحو التقدم وتوفر له كل ما باستطاعتها من سبل الراحة، وفي الجانب الآخر يواصل دراسته الجامعية المتعثرة وشيئاً فشيئاً بدأت تجارته تزدهر وتؤتي أكلها، وجهينة لا تألو جهداً في سبيل نجاح شكيل في حياته تسانده وتشد أزره ونتيجة توفر فائض مالي بسيط معه ها هو يتمكن أخيراً من شراء سيارة جديدة ليشعر بطعم الجديد من الكماليات لأول مرة في حياته، نعم، قد لا تصل به إلى قريته ولكنها تعينه في التنقل على بقية الطرق المستوية والمسفلتة، ولكنه يتوق إلى نيل شيء آخر كذلك طالما هو بصحته وعافيته، وطالما مَنّ الله عليه بجهينة قريناً له لا سيما وهما على الدوام في وئام وسلام من غير منغصات أو مشكلات بل في ود وانسجام واحترام، إذاً ما الذي يسعى إليه شكيل بعد رغم السعادة التي تغمره بها جهينة واطمئنانه برضا والدته عنه؟ إنه يأمل بأن يمن الله عليهما بطفل يسعدان به يربيانه ويعلمانه ليكون سنداً ومعيناً لهما، فكاشف جهينة برغبته بالأمر الذي طالت مدته دون تحقيق بوادر حمل مؤكداً لها أن العمر يمضي بهما سريعاً، فماذا كان رد جهينة وهي التي تكن الحب والإخلاص أيضاً لبعلها وهي المرأة التي سعت كذلك جاهدة للاستحواذ على شكيل دون سواه؟
لقد تلقى ردها إيجاباً بأنها تنتظر الإرادة الربانية بأن يرزقهما بذرية، وكانت تتمنى أن تحبل منذ الليلة الأولى لزواجهما، وأنها ستسعى نحو طلب العلاج إن تأخر ذلك لمدة أخرى وأنهيا حديثهما على هذا الاتفاق، وبمرور الأيام حصلا على إجازة لهما ولمدة تساعدهما على قضاء بعض مآربهما المؤجلة فتدبر شكيل بطريقته أمر الحصول على وسيلة نقل تصل به إلى القرية مباشرة، فهو على نية لأخذ زوجه معه هذه المرة ليفي بالوعد الذي قطعه على نفسه للغالية والدته للقائها بجهينة، والتي بدور الأخيرة كانت متشوّقة للمكان الذي جاء منه رَجُلها والأم التي أنجبته وربته حتى صار إلى ما وصل إليه، ووصل شكيل قريته ومعه زوجه والتقيا بالأم فما كان من جهينة إلا المسارعة بتقبيلها على رأسها احتراماً وتقديراً لها، ثم انحنت تقبل يدها إجلالا واعترافاً وامتناناً لهذه الأم الفاضلة، ولم تَدعُها بعمتها كما هو معروف وشائع بين زوجات الأبناء لأمهات أزواجهن، بل دعتها بأمها وكأنها أم لها لا لـ(شكيل)، وطبيعي أن واحدة مثل جهينة وهي صاحبة القلب الكبير والحب المتدفق لا يُنْتَظَر منها إلا مثل هذا التعامل خاصة مع الأقارب والأحباب، وتكفلت جهينة ليلتها بإعداد وجبة العشاء عن طيب خاطر طالبة إلى أمها- أم زوجها-عدم إرهاق نفسها لأجلهما مؤكدةً لها وجوب قيامها هي بخدمتها وليس النقيض، وجلسا – شكيل وجهينة- في القرية بضعة أيام تعرفت هي خلالها على القرية وسكانها الطيبين الذين رحبوا بها، واندمجت وانسجمت معهم مبدية ارتياحها لهم كما هم كذلك، لكن سرعان ما انقضت الأيام؛ حيث أمامها وزوجها يومان فقط من أيام الإجازة ويحين بذلك وقت الإياب إلى العاصمة، ولكن كان لجهينة رأي آخر قبيل المغادرة؛ حيث عارضت مرافقة شكيل إلا وأمهما معهما وأخذت تتوسل إليها وترجوها أن ترافقها ليكونوا ثلاثتهم معاً حتى إنّ عينيها اغرورقتا بالدموع بينما الأم تحاول إقناعها بأنها اعتادت على الوحدة والعيش بمفردها في القرية وللاعتناء بما لديها من بعض رؤوس الماشية وأعمال البيت، ولتخفف على جهينة أكدت لها أنه لا ضير من بقائها في القرية مع بقية السكان الذين تعدهم أقارب لها منذ عقود مضت، فما كان من جهينة إلا أن ترجو زوجها البقاء مع أمهما إلى نهاية اليومين الباقيين من إجازتهما والذي بدوره لم يمانع بل سعد هو أيضاً بالبقاء طالما ذلك لن يؤثر في وقت عودتهما وتمكنهما من حضور كل منهما لعمله في ساعة بدئه، ورحبت الأم هي الأخرى بإرجاء مغادرتهما وبقائهما معها ليومين إضافيين إن كان ذلك لا يتعارض مع مصالحهما في العاصمة حتى يوم عملهما الرسمي.
وبيوم المغادرة لم تحتمل كل من الأم وجهينة موقف لحظة الرحيل فأخذتا في البكاء لتتقبلا الأمر على مضض وجهينة تَعِد الأم بزيارة أخرى فوادعتا بعضهما على ذلك، وانفردت الأم بابنها توصيه بجهينة خيراً ودعته ألا يفرط فيها؛ فانفتحت أساريره، وعرف أن والدته قد رضيت عنه، وتقبّلت زواجه بهذه المرأة التي سبق وأن أبدت اعتراضها عليها زوجاً له، فها هي اليوم توصي ابنها بزوجه خيراً، فيا لها من قلوب ناصعة ناصحة صالحة طاهرة نقية!
فعاد الزوجان للعاصمة وهما في قمة سعادتهما وربما شكيل أكثر سعادةً من زوجه، فيما أصبحت نساء القرية يشدن بمناقب جهينة وحسن معشرها وطيبة قلبها ويباركن لأم شكيل على حسن اختيار ابنها وتوفيقه بزواجه منها، فماذا يُنتظر من بعد هذا الود والتآلف الذي كان في القرية الوادعة تلكم القرية البعيدة التي حققت جهينة زيارتها لها، وعرفت كيف تفرض وجودها بين أهل زوجها؟، وفي القرية يشاء الله تعالى أن يحقق أمنية شكيل لتأتي جهينة من قرية زوجها وبذرة الرفقة المقدسة والحب الناشئ على الصدق والإخلاص قد بدأت تنبت في أحشائها، إن جهينة حامل، ولعل ذلك جائزة الخالق لهما لصبرهما وإيمانهما المطلق به سبحانه وتعالى بقدرته على كل شيء ونتيجة رضا الأم عنهما ودعوتها لهما، إذاً حملت جهينة وهي في قرية زوجها التي أحبت فيها – ليس أم زوجها فقط- بل الجميع، وهي الآن تتوق إلى أن تنقل هذا الخبر لأم زوجها، وأنها بانتظار هذه الفرصة التي ترتقب موعدها السانح بكثير من الشوق والانتظار لتبشرها به، فقد بدأت تحن بشغف إلى لقاء تلكم الأم نحيلة الجسد نقية القلب صافية السريرة أم شكيل وأمها هي أيضاً هكذا اعتبرتها في نفسها، فمرت بضعة أسابيع وقرر الزوجان زيارة القرية مجدداً، فتدبرا أمر الرحلة ووصلا مع أمهما وقضيا معها عدة أيام، وعرفت الأم من جهينة أنها ستصبح جدة؛ فتهللت أساريرها فرحاً وقبّلتهما مباركة لهما ذلك، وأوصت جهينة بأن تتوخى الحذر حفاظاً على سلامتها وسلامة جنينها، ولكن كثيراً ما يخون الوقت أصحابه في لحظاتهم الجميلة بتسارع انقضاء سويعاته، فها قد حان وقت الرحيل بمغادرة شكيل وزوجه القرية والأخيرة على موّالها للأم تطلب رفقتهما إلى العاصمة، لكن الأم تعتذر عن قدرتها لذلك مؤكدة لها رغبتها في مرافقتهما والوقوف إلى جانبها خاصة وهي حامل لكنها ساقت لها الأعذار بظروفها الخاصة بها في القرية فغادرا دونها، فأي منعطف ينتظر جهينة وزوجها مع وليدهما المنتظر؟
وفي هذه الفترة سعى شكيل إلى إضافة بعض الأنشطة التجارية الأخرى إلى أنشطته السابقة الشبيهة طمعاً في رفع دخله وتوسعة أعماله في التجارة، وفي الوقت ذاته يحين موعد امتحاناته الجامعية التي لا يزال يكابدها رغم تعديه المدة المحددة لنيل الشهادة الجامعية الأولى، لكن عزمه وتصميمه على تحقيق مبتغاه لم يثنياه عن التراجع والتخلف دون بلوغ هدفه النبيل الذي عقد العزم على نيله فها هو يؤدي امتحانات المواد التي كان قد أخفق فيها، ورغبة منه بتخفيف العبء عن كاهل جهينة حاول إقناعها باستقدام عاملة منزل لتعينها في شؤون البيت مذكراً إياها بحالتها الصحية التي تستدعي وجود مساعدة لها للقيام ببعض الواجبات المنزلية، لكن جهينة رفضت العرض بحجة أن الخدم غير مؤهلين لخدمة غيرهم كما أنهم غير أمناء على رعاية الأطفال، مؤكدةً له بأنها ستستعين بوالدتها إذا دعت الحاجة لذلك، وأنها ستعلمه متى ما رأت نفسها أنها بحاجة إلى عاملة مساعدة، وتمر الأشهر على جهينة سريعاً ولم يتبقَ على إنجابها لوليدها البكر إلا أسابيع قلائل، وهما في سباق مع الزمن للتحضيرات للضيف الجديد لاستقباله بما يليق به خاصة كأول مولود لهما طال انتظاره، وفرحتهما به لا حدود لها ويسعيان معاً لاختيار اسم مناسب له إن كان ذكراً أو لها إن كانت أنثى، وكلما قَرُبَ موعد الإنجاب كانت مراجعة جهينة للمستشفى أقرب عن المراجعة التي قبلها، انتظاراً لليوم الموعود الذي سيخرج ضيف جهينة وشكيل إلى الكون الواسع.
وسنواصل بإذن الله تعالى في الجزء المقبل..