يومَ أنْ أفطرنا معًا
د. محمد عزيز عبد المقصود
أستاذ لغويات مساعد بكلية اللغة العربية
جامعة السلطان عبد الحليم معظم شاه الإسلامية العالمية ماليزيا
الإيميل /mohamedaziz@unishams.edu.my
mohammadaziz1974@yahoo.com
كلما توسّط شهر رمضان تذكرت هذا المشهد الذي لم يغب عني يوما ما، ونحن كنا جلوسا حول المائدة، وقبيل الإفطار خلا كل واحد منا إلى نفسه عدة دقائق متبتلا بما أفاض الله تعالى عليه من ذكر وتسابيح، وما أعظمه وقتا يتضرع فيه الصائمون إلى ربهم -سبحانه وتعالى- أن يتقبل منهم دعاءهم!
يحلو الحديث معك عقب الإفطار، وكيف لا يحلو وأنت منبع السعادة وبهجتها؟! كانت ابتساماتك تشع نورا نستضيء به في جلستنا، وأحاديثك العذبة تروي ظمأنا بعد صيام يوم طال نهاره، ونال التعب والإرهاق منا طويلا، وما زالت كلماتك الرقراقة تطمئن قلوبنا ، وتشد أزرنا، وتقوي عزيمتنا.
أتذكر هذا الربط الأسري الذي ما وجدته في مكان آخر، وما أحسست به إلا في ظلك وفي وجودك؛ حيث كنت أرقب في عينيك سعادة غامرة وأنت ترين أبناءك وأحفادك مجتمعين في أسرة واحدة، ويتناولون طعام الإفطار وكلهم سعداء، نتبادل نحن- أبناءَك- أطراف الحديث معك، ويلهو أبناؤنا حولنا، وتعلو صيحاتهم التي كانت تصبغ المكان بصبغة رمضانية لا مثيل لها، وأنت هادئة الطبع، وفوق حجرك ينام أحد أحفادك قرير العين مطمئن القلب هانئا ومتفردا بهذا الحجر الذي كنت أرقبه ونحن جلوس حولك، وعندما تحين الفرصة ويخلو.. كنت أرتمي واضعا رأسي فوقه مستلقيا مستمتعا به ولو لعدة دقائق، وكان أحفادك يهرولون نحونا عندما يرون هذا المشهد الذي يعجبهم كثيرا، ويتنافسون مستلقين بجانبي؛ علهم يسبحون معي في حنانك.
ما زلت أتذكر أطراف أصابعك وهي تتخلل شعري، وتمسحين بها فوق جبيني، وكنت أسعد بذلك أيّما سعادة، وأخبرك أن تكرري ذلك كثيرا؛ فسبحان الله! عطاء بلا مقابل، وسعادة نابعة من قلب حنون، ورحمة من رحمات السماء استشعرتها وأنا بالقرب منك، وكم وددت أن تمتد هذه الدقائق طويلا وحق لها أن تطول !!
تعلمت منك كثيرا خاصة ما كنت أشاهده منك في حرصك الشديد على إخراج صدقات رمضانية كل ليلة، وقبل أن أخرج لصلاة العشاء تضعين في يدي إحدى الصدقات لإخراجها، وكنت تحرصين ألا يراك أحد من الجالسين عندما تفعلين ذلك.
وقد وردت آيات كثيرة وأحاديث نبوية توصينا بالوالدين، والإحسان إليهما، منها قوله تعالى:”وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا”. (الإسراء: من الآية 23)، وما أجمل هذا العطف وما أعظم دلالته بعد عبادته سبحانه وتعالى!
وقد روى المقدام بن معدي كرب أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال:”إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يُوصيكم بأُمَّهاتِكم، إنَّ اللهَ يُوصيكم بأُمَّهاتِكم، إنَّ اللهَ يُوصيكم بآبائِكم، إنَّ اللهَ يُوصيكم بالأَقرَبِ فالأَقرَبِ”. أخرجه الترمذي (2310).
ولا يخفى أن في تكرار الوصية بالأمهات تأكيدا لفضلهن، وعِظم المكان والمكانة.
ويتوالى هذا الفضل والحرص الشديد في وصية النبي – صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أبو هريرة- رضي الله عنه- أنه”جَاءَ رَجُلٌ إلى رَسولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، مَن أحَقُّ النَّاسِ بحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قالَ: أُمُّكَ، قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: ثُمَّ أُمُّكَ، قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: ثُمَّ أُمُّكَ، قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: ثُمَّ أبُوكَ”. رواه البخاري (5971).
رحمات ربي عليكِ أمي الحبيبة يمر العمر، وتمضي السنون، وما زالت مشاهدك الرمضانية نقتفي أثرها، وما غاب رمضانك، ولن يغيب، ولن أنسى، ولن ينسى أبناؤك وأحفادك “يومَ أنْ أفطرنا معًا”.