عينٌ على وحدة العناية المركّزة
غزلان البلوشية
في اللحظة التي بدأتُ فيها العمل في وحدة العناية المركّزة، كان يتملكني إحساسٌ بأن الحياة هناك مختلفة تماماً عن باقي الأقسام.
ففيها ترى بين المرضى وذويهم الحزن والألم والأسى والأمل في الوقت نفسه، بجوارهم أرى ملامح فرحٍ منتظر لعودة مريضهم إليهم ليعوّضوه ما فاته.
حدثت في شعبتي قصة أحببتُ أن أرويها لكم؛ لأني أجد فيها الأمل في أشدّ اللحظات ألماً.
لن أطيل عليكم وأعلم أنكم في شوقٍ لمعرفة ما عندي من القصص.
قصتي اليوم عن مريض تمّ إنعاشه عدّة مرّات، وتمّ نقله إلى وحدة العناية المركّزة، وهو تحت جهاز التنفس وتحت التخدير، كان وضعه صعبا بالنسبة لحالته الصحية ولأسرته وقلقهم الشديد عليه، كانت حالته الصحية حرجة جداً.
كان المريض رجلاً كبير السنّ، لديه الكثير من الأمراض المزمنة، لن أتحدث عن التفاصيل؛ لأنها من الخصوصيات، كان وضع أولاده مؤلما جداً، بكاءٌ وحزن وألم، شعرتُ أنهم يحبونه جداً، وسبحان الله! هو يستحق هذا الحب، سأقول الأسباب لاحقاً.
أفراد الطاقم الصحي في وحدة العناية المركزة لهم ميزة في عملهم، فمنذ بداية العمل إلى أن ينتهي كل واحد منهم يعمل بتركيز على مريضه، و لا يجلس قبل أن ينهي عمله بالكامل وبكل التفاصيل إلى أن يأتي زميله البديل، ويتم تبادل المعلومات بينهما منذ بداية تسلمه المريض إلى أدقّ التفاصيل، ليكمل الزميل عمله إلى أن ينتهي، وهكذا، فعلاً لاحظت منهم الالتزام والتعاون والاهتمام الشديد والدقة والملاحظة في حالة حدوث أيّ تغيير في حالته الصحية.
في إحدى مناوبات العمل وكانت ليلا، سلّمت زميلتي المريض المسنّ الذي سبق وتحدثتُ عنه لي، وكان بداية المناوبة الليلية، كان عليّ أن أعلم ماذا أخذ من أدوية؟ وما مستجدّات حالته الصحية قبل ذلك؟ وعلمتُ أنه قد تم تخفيف أدوية التخدير، ولكنه ما زال على جهاز التنفس، ويشعر بالألم إذا قمنا بالضغط الخفيف عليه على جبهة الوجه أو الصدر، وهي علامة جيدة تُحسب لصالح المريض، إلى جانب فحص العين لمعرفة ما إذا كانت تتحسّس من الضوء أم لا، وأيضاً عندما تنادي المريض ويحرّك عينيه أو أي جزء من جسمه، هذه العلامات التي تجعل له بصيص أمل، إلى جانب العلامات الحيوية التي تساعد في تحديد الوضع الصحي.
قلت ما قلت عن تقليل أدوية التخدير والعلامات الحسّية لأوصل لكم لحظة تسلمي المريض كبير السنّ، وقد تم إيقاف أدوية التخدير عنه تماماً، ولكن ما زال جهاز التنفس مستمرا فيه، يجب على الممرض بعد أن يستلم مريضه أن يتأكد من حالته الصحية وتطوراتها، وما أدويته التي يجب تغييرها على حسب وضعه الصحي؟ يجب أولاً أن نكتب عنه كل شيء، وبعدها نقوم بواجبنا تجاهه، كإعطاء الأدوية، وشفط السوائل المتجمّعة في أنبوب التنفس والفم، وإعطاء وجبته عن طريق أنبوب الطعام، من بعدها يجب تغيير وضعيته كل ساعتين؛ لتجنب التقرحات السريرية.
للعلم، يتم تسجيل كل تفاصيل المريض في الحاسوب، هذا يدل على دقة وحدة العناية المركّزة واهتمامها بمرضاها.
ولكن من بعد الكتابة، قمت أنا وزميلة لي لأقدم له كل ما تم ذكره سابقاً، في هذه اللحظة كنت قريبة من سرير المريض، وفجأة، رأيت أجمل عيون فُتحت أمامي، وهي عيون المريض الذي تحدثت عنه في بداية القصة، شعرت بسعادة كبيرة جداً، وكأنه واحد من أفراد عائلتي، فرحتُ لدرجة كنت سعيدة، وأنا أفكر كيف يمضى أيامه وهو تحت التخدير وعلى جهاز التنفس؟ ماذا كان يسمع؟ وماذا كانت توقعاته؟ وما شعوره؟ وكنت أتمنى أن أجلس وأستمع له لولا أنه لا يستطيع الكلام؛ بسبب بحّة في الصوت، عندما رأيته يرمش عيونه لي، كلّمته، وكان ينفّذ ما أطلب منه، وهذه علامة ليست جيدة فحسب، بل ممتازة، هذا يعني أنه مدرك وواعٍ لي وللأوامر التي تُطلب منه، في هذه الليلة مررتُ عليه أكثر من مرة، وهو يراني ويبتسم، قرأتُ في عينيه حديثاً طويلاً، ولكن يصعب عليه التعبير بسبب أنبوب التنفس.
كان الجميع ينتظرونه بفارغ الصبر ولولا أن الوقت متأخر، لكنت تواصلت مع ذويه؛ ليفرحوا بالخبر السعيد، ولكن لم أرغب بإزعاجهم، وأحببت أن يتلقّوا الخبر في الصباح ليكونوا سعداء مع وجودهم بجانبه.
وعندما وجدنا أن وضعه جيد جداً، وهو ينام أحياناً ويستيقظ أحياناً أخرى، ويريد أن يتحدث؛ قرر طبيب التخدير إزالة الأنبوب، ومتابعة حالتة الصحية، وكان الوقت قبيل الفجر عندما تمّت إزالة الأنبوب، ومن رحمة الله به أن وضعه كان ممتازاً، وقد طلب مني أن أسقيه الماء إلا أن هذا الأمر غير مسموح؛ خوفاً عليه من أن يتأذى أو أن يغصّ، وبما أنه أصرّ على طلبه، وأنا أعلم أن فمه جافّ جداً ويحتاج إلى ترطبيه؛ قمت بإعطائه قطرات بسيطة فقط لترطيب فمه، ومن بعد أن شرب قليلاً من الماء، قال لي بصوت منحفض:( سقاكِ الله من ماء زمزم).
أيعقل وهو بحالته هذه لم ينسَ أن يدعو دعوة جميلة جداً بالنسبة لي؟! خاصةً من إنسان كانت حالته الصحية حرجة، والذي مرّ من جهاز التنفس والتخدير، وتوقف القلب عدة مرات، ولكن لم ينسَ أن يدعو لمن يسقيه ولو كانت قطرات.
دعوة لامست قلبي وشعرتُ بالسعادة تغمرني، وهو في نفس الوقت كان يحب الحديث رغم صوته المنخفض، إلا أنه كان دائم التبسم في وجهي كلما مررت به، كان سعيداً جداً، وينتظر شروق الشمس ليرى أولاده ويسعد بهم.
اللحظات الجميلة هي التي نتشارك فيها مع مرضانا والأجمل أنني ممرضة لأشعر بهذا الشعور وهذه المشاعر مع المرضى.
في الصباح سلّمت لزميلتي مريضي، وودعته ليبادلني نفس الابتسامة.
عافى الله كل مريض، وردّه إلى ذويه سالماً معافىً.