سلسلة مقالات في المواطنة (المواطنة السياسية، 3) المواطنة السياسية في المناهج العُمانية: بين مطرقة الطموح وسندان المعايير(2)
د. سلطان بن خميس الخروصي
دكتوراه في علوم التربية،وكاتب، ومدوِّن، وباحث اجتماعي وتربوي
sultankamis@gmail.com
…نستكمل سلسلة مقالاتنا في تِبيان واقع القيم السياسية في حقلنا التربوي العُماني، واستطرادا لفهم معايير سياسة التأليف وأسسه، وبناء المناهج الوطنية وتحليل المنطلقات والركائز القويمة التي بُني عليها المحتوى الدراسي مع ديناميكية الواقع العالمي، وتقارب الشعوب وقيمها فيما يُعرف بالمواطنة العالمية، لنتعرف بوضوح على موقعنا العُماني في الخارطة العالمية، وقد نوّهنا في مقالنا السابق عن أننا سنغور في تفسير وتحليل أحدث دراسة عُمانية بحثت في واقع تلك القيم في المحتوى الدراسي، والتي اعتمدت على تحليل مناهج الدراسات الاجتماعية لمرحلة التعليم ما بعد الأساسي، كنموذج أقرب لهذه القيم عن نظيراتها في المناهج الأخرى، وباعتبار أهمية هذه الفئة العمرية في فهم التيارات الفكرية والآيدولوجية المحيطة، وقد حازت هذه الدراسة على فرصة الترشَّح لجائزة الكلية كونها أفضل بحث صريح وجريء للعام الأكاديمي 2022م.
سعت الدراسة إلى الكشف عن ماهية القيم السياسية المضمَّنة في المناهج الحالية، والتي كشفت نتائجها عن أن أغلب الموضوعات السياسية ركَّزت على التاريخ السياسي العُماني، والأحداث التي شهدها العالم خلال العقود الماضية، وكفاح الإنسان عبر تعاقب التاريخ لتحقيق الحياة الكريمة، وحقن الدماء، والدفاع عن الأوطان، وهي موضوعات هامة وضرورية لدى النشء؛ نظرا لما أفرزته الأحداث الإنسانية عبر التاريخ من خطورة الصراعات الداخلية والخارجية على المواطنين والوطن، وقد يكون تشبَّع المحتوى بهذه الموضوعات نابع من رأي مؤلفي المنهج الدراسي في التركيز على ما جاء في النظام الأساسي للدولة، وانطلاقا من القوانين والتشريعات التي سُنَّت لحفظ الأمن والأمان، وتحقيق الاستقرار السياسي، والمحافظة على التلاحم المجتمعي، إلى جانب الاهتمام بمبادئ فلسفة التربية العمانية في خلق جيل واعٍ بما حوله، قادر على توظيف الطرق السلمية والحضارية في المطالبة بحقوقه، والقيام بمسؤولياته على أكمل وجه.
ولو تعمقنا في تفاصيل القيم السياسية التي تطرقت لها الدراسة نلاحظ أن قيمة “الاعتزاز بالوطن” جاءت الأكثر تكرارا وبنسبة (17.3%)؛ نظرا لكثرة الموضوعات المتصلة بالإرث التاريخي والحضاري العُماني، والعربي والعالمي الكبير لاستيعاب طبيعة الصراع العسكري والتجاري بين الحضارات القديمة للسيطرة على مضيق هرمز، وباب المندب، والدور البطولي للإمبراطورية العمانية في الحفاظ على استقرار المنطقة، ودور العمانيين في آسيا وجنوب شرق إفريقيا، وسعيهم نحو تحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وتمكُّنهم من تطهير سواحل بحر العرب والمحيط الهندي من القراصنة، وتأمين طُرق الملاحة التجارية، والانسجام والتداخل مع شعوب آسيا وجنوب شرق إفريقيا.
من جهة أخرى، فقد أظهرت النتائج أن أقل قيمة سياسية تضمنها المحتوى جاءت حول “المشاركة في مجلس الشورى” بمتوسط لم يتجاوز (1.3%)؛ لندرة الموضوعات ذات الصلة بمفهوم الشورى على الرغم من أهميتها في حياة الناس كمبدأ ديمقراطي إسلامي وإنساني رفيع، واعتبارها مسارا جوهريا للتكامل والمشاركة بين المواطنين والدولة في صناعة القرارات السياسية والاجتماعية والتنموية، إذ اقتصرت المناهج الحالية في التعريف العام بالسلطات الثلاثة القائمة (التشريعية، والقضائية، والرقابية) بينما خلت من أي موضوعات ذات صلة بهذه القيمة إلا في فقرة موجزة جدا ضمن موضوع “الجهاز الإداري للدولة ومكوناتها”.
تمثِّل قيمة الشورى أحد أهم مظاهر الديمقراطية للدولة الحديثة؛ فهي بوصلة الأمان للوطن والمواطنين في وضع الإطار العام لطبيعة العلاقة بينهما، وتعزيزها في المناهج الدراسية يُسهم في خلق جيل واع بماهيتها، وأهميتها، وآليات ممارستها، وهي تُمثِّل النضج الفكري والقانوني للمتعلم؛ لتدعيم الشراكة المجتمعية في التصويت وانتخاب من يراه مناسبا لخدمة الوطن والمواطنين تحت قبة مجلس الشورى، وقد يكون ضعف تضمين موضوعات الشورى في المحتوى الدراسي نابع من وجهة نظر مؤلفي المنهج الحالي بأن تجربة الشورى في السلطنة لا تزال في طور التأسيس والبناء، وتمرُّ بمراحل تطويرية بنائية مستمرة، إذ لم تبدأ بصورتها الحقيقية إلا في العام (1991)، وأن النظام الأساسي للدولة منذ صدوره بالمرسوم السلطاني رقم (101/1996) لم يعزِّز من قوة مجلس الشورى كمؤسسة برلمانية مستقلة لها قوتها على الحكومة، وإنما اقتصر دورها المعنوي في الجوانب الاستشارية، والتدارس ورفع التوصيات غير الملزمة على الحكومة، وبحث القوانين المحالة له من مجلس الوزراء، وإمكانية اقتراح مشاريع القوانين أو تعديلها، وحتى بعد صدور النظام الأساسي الجديد بالمرسوم السلطاني رقم (6/2021) ظلت نفس المواد القانونية مع إفراد قانون جديد باسم “قانون مجلس عُمان” الصادر بالمرسوم السلطاني رقم (7/2021)، الذي ضمَّ تفاصيل غرفتي المجلس، وهما مجلس الشورى (المنتخب أعضاؤه من المواطنين)، ومجلس الدولة (المعيَّن أعضاؤه من السُلطان)، إلا أن القانون الجديد لم يُعزِّز الأدوات البرلمانية لمجلس الشورى كلجنة تقصِّي الحقائق، والاعتراض على قرارات الحكومة، والاستجواب، وسحب الثقة عن الحكومة وغيرها.
إن الحِراك الشعبي الذي شهدته سلطنة عُمان في السنوات المنصرمة، والذي طالب بالعدالة الاجتماعية، والإصلاح التربوي للمناهج، وتحسين ظروف الحياة الكريمة، وإعطاء مجلس الشورى الصلاحيات الرقابية الحقيقية للمطالبة بحقوق المواطنين والوطن، يُعطينا مؤشرا هاما بأن المواطن أصبح أكثر وعيا وانفتاحا بما يدور حوله، ويتأثر بالمتغيرات المحيطة من خلال فضاءات الإنترنت، ووسائل الإعلام المختلفة، ومدرك لقيمة الشورى المفترضة، وأهمية البرلمان كممثل له أمام السُلطان والحكومة والعالم؛ مما يتطلب على مؤلفي المناهج الوطنية والمعنيين غرس قيم المواطنة السياسية، وإعادة النظر في محتواها الحالي وفق معايير قويمة تمكِّننا من خلق مواطن مُؤهَّل في وضع صوته بمسؤولية لمن يُمثِّله نحو تحقيق طموحات وآمال وطنه والمواطنين.