مهرجان الزوجة الثانية
د. محمد عزيز عبد المقصود
أستاذ لغويات مساعد بكلية اللغة العربية
جامعة السلطان عبد الحليم معظم شاه الإسلامية العالمية ماليزيا
الإيميل /mohamedaziz@unishams.edu.my
mohammadaziz1974@yahoo.com
في إحدى قرى ولاية قدح دار الأمان، ماليزيا، وقبيل عصر يوم السبت الموافق 03/19/ 2022، وفي طريق عودتنا من الجامعة أنا وصديقي بعد الانتهاء من يوم دراسي مع طلاب الدراسات العليا، ذهبنا لتلبية دعوة أحد أصدقائنا الماليزيين لتهنئته بزواج ابنته، وقدّمنا واجب التهنئة، ورحّب بنا صديقنا أجمل ترحاب؛ حيث يسعدون كثيرا في أفراحهم بمشاركة أحد من العرب، بل وتعلو البسمة شفاه الجميع رجالا ونساء كبارا وصغارا؛ وذلك ابتهاجا بمشاركتنا إياهم في احتفالاتهم.
أقام الوالد “وليمة عرس” لابنته، التي تشبه عندنا “مهرجان العرس”؛ حيث تنصب الخيام قبيل العرس بيوم أو يومين، وتبدأ الوفود من أقارب العروس في الحضور استعدادا لهذا اليوم المبارك.
ولفت نظرنا ونحن على مشارف المهرجان اصطفاف كثير من السيارات يمينا ويسارا، وكذلك كثرة الوفود من الأسر الماليزية القادمة لتهنئة العروسين.
وكعادة ولائم العرس في ماليزيا عندما تصل إليها تبدأ بتناول ما لذّ وطاب من الأطعمة والمشروبات على أنغام بعض الأناشيد والأغاني التي تضفي جوا من البهجة والسعادة، وفي حديث جانبي بيني وبين صديقي، ونحن نتناول الطعام، قال لي: ما شاء الله! العدد كثير، والمهرجان كبير، خاصة ونحن كنا قرب خيمة أسرة العروس، وقد شاهدنا كثرة الوفود القادمة والمغادرة، والبسمة ترتسم فوق شفاه الجميع؛ حيث هناك مكان مخصص يجلس فيه الوالدان لاستقبال الوفود والترحيب بهم، وإعطائهم بعض الهدايا المعدة لمن يأتي مهنئا، ولفت انتباهنا أن هناك امرأة في خيمة الأسرة ترتدي ملابس عروس وزينتها، وهي في أبهى حُللها، لكن تظهر معالمها أنها متقدمة في العمر، فقلنا: لعلها أم العروس، وما هي إلا دقائق معدودات، وشاهدنا صديقا ماليزيا بجانب جلستنا اقترب منا، واحتسينا مشروبا ماليزيا يسمى (Teh Tarik)، وتبادلنا أطراف الحديث، فقال لنا: هذه العروس عمرها فوق الأربعين، وهذه الزيجة الثانية لها، فارتسمت علامات التعجب والدهشة على وجوهنا!! ليس لأنها تتزوج للمرة الثانية، لكن استراتيجية إقامة مهرجان لها بهذه الطريقة هو اللافت للنظر!! فلم نعهد في بلادنا مشاهدة مثل هذه المهرجانات للزواج الثاني خاصة للمرأة، وزاد الأمر وضوحا عندما شاهدنا الزوج يرحب بالمدعوين، وهو مبتهج أشد ابتهاج، وقال صديقنا: الزوج متزوج قبل ذلك، وعمره قرابة الخمسين، أو يزيد قليلا، فقلنا: سبحان الله! ما أجمل بيئتكم! وما أروع عاداتكم!
وهممنا أنا وصديقي بالانصراف ونقول: هذا المجتمع به عادات وتقاليد مختلفة عن مجتمعاتنا العربية، ونحن نتذكر كم من زوجات تُوفي عنهن أزواجهن! وكم من زوجات طُلّقت! ومنهن من كانت ترغب في زواج ثانٍ، وتخشى على نفسها الفتنة خاصة من كُنَّ في سن مبكرة، لكن عادات بعض مجتمعاتنا العربية تأبى ذلك، ولو حدث وتزوجت امرأة متوفَّى عنها زوجها أو مطلقة، فإن هذا يتم في جو أسري مغلق، وفي أضيق الحدود، بل هناك بعض الأسر كانت تفرض على الزوج أن يأخذ بنتهم في وقت متأخر ليلا؛ كي لا يراهم أحد، فإن هذا يعد عيبا أن تذهب المرأة في زواجها الثاني في وقت النهار، وغير ذلك كثير من عاداتنا وتقاليدنا -ولعلها اختلفت نوعا ما الآن-، لكن الذي لفت انتباهنا، وأثار دهشتنا، وظلنا نتحدث عنه بعد الانصراف كيفية التعايش بين أفراد هذا المجتمع في التعامل مع الزواج الثاني للمرأة.
لا أتحدث هنا عن قضية التعددية في الزواج، فمجتمعاتنا العربية معالمها واضحة في التعامل مع هذا الملف، لكن أن نجد امرأة تتزوج للمرة الثانية، ويقام لها مثل هذا المهرجان المبهر في تنسيقه، وإقبال الوفود بهذا العدد، وتعامل المجتمع معه بهذه الطريقة وقبوله اجتماعيا –ونحن نتذكر كيفية تعامل مجتمعاتنا العربية مع المرأة في زواجها الثاني إن حدث وتزوجت- هذا هو موضع الإعجاب، ويعطينا عدة رسائل، أهمها:
أولا: أن عطاء المرأة لا يتوقف عند زمن معين، فها هي العروس تواصل حياتها بعد الأربعين، وقد تزينت بأجمل الزينة، وهي مقبلة على حياة جديدة، بلا خوف أو تردد، وكلها أمل في غد أفضل، ومستقبل مشرق مع رفيق درب جديد.
ثانيا: أن قبول المجتمع مثل هذه العادات والتقاليد يسهم إسهاما واضحا في المحافظة على المرأة، ومراعاة مشاعرها، وإعلاء شأنها، ويعالج قضية الاستقرار الأسري ودوره في بناء المجتمع والارتقاء به.
ثالثا: أن فكرة إقامة مثل هذا المهرجان للزوجة الثانية بهذه الطريقة يدل على وعي الأسر بأهمية دمج بناتهم في المجتمع والتعايش معه، لا الابتعاد عنه، والبقاء طويلا في البكاء على ماض مؤلم مع تجربة غير موفقة، وأن المرأة قادرة على العطاء.. بلا حدود لا تستسلم أبدا، فالحياة جميلة، وأجمل ما فيها امرأة تبني أسرة مترابطة قوية ولو بعد حين، وما يدريها لعل الله يكتب لها خيرا في زواجها الثاني، وفي مهرجان باركه الجميع..!!