القروي والعاصمة..(3-15)
خميس بن محسن البادي
عرفنا في الجزء السابق أن شكيل استقر في العاصمة؛ حيث عمل في إحدى الوزارات، واقتنى لنفسه سيارة يتنقل بها، والتحق بالمدرسة لإكمال تعليمه بنظام تعليم الكبار، وقد مكث لفترة في العاصمة دون ذهابه إلى قريته البعيدة، لنواصل في هذا الجزء جوانب جديدة من الأحداث..
خلال الفترة الراهنة صادفت إجازة عيد الأضحى المبارك مع إجازة نهاية الأسبوع التي قاربت إجمالياً من الخمسة أيام متصلة، فوجدها شكيل فرصة سانحة ومناسبة طيبة لزيارة قريته؛ حيث والدته التي تتلهف شوقاً لرؤيته، وهو نفسه يحن إلى زيارتها بعد طول غياب،، فأقدم على شراء ما باستطاعته من هدايا ومستلزمات لاستخدامها خلال أيام العيد، وغادر العاصمة بعد آخر يوم عمل رسمي من بدء إجازة العيد متجهاً لقريته يقود سيارته المتواضعة، وهو يعلم أنه سيتركها مضطراً مع نقطة التجمع التي كان قد انطلق منها من ذي قبل إلى العاصمة ليقينه بعدم تمكنه من الوصول بها إلى القرية؛ لوعورة الطريق، وصعوبة السير فيها بسيارات صغيرة مثل سيارته، وكونه استقل سيارة خاصة به يقودها بنفسه لم تمضِ ساعات طوال حتى وصل لنقطة التوقف؛ حيث سيواصل رحلته مجدداً عبر سيارة الجيب الإنجليزية الصنع لتنقله وآخرين إلى مركز ولاية قريته، وبذلك أوقف سيارته الصغيرة تحت إحدى شجيرات الغاف في الجوار، والتقى ببعض معارفه من القرية الذين كانوا على نية الذهاب إليها، وبتوافدهم جميعاً لمكان التجمع؛ حيث يعرف السائق أكثرهم استقلوا سيارة “اللاندروفر” متجهين إلى مركز ولايتهم ثم إلى القرية، وعلى مسافة الطريق التي امتدت عبرها الرحلة لعدة ساعات كان شكيل يستمع لحكايات رفاقه وطرائفهم، والمواقف التي اعترضت بعضهم في أثناء وجودهم كلٌّ في مكان وجوده بالعاصمة وغيرها من الأماكن الأخرى، وبوصولهم القرية بوقت متأخر إلى حدٍ ما أمسى شكيل بقية ليله في بيته بصحبة أمه التي كانت في شوق إليه بعد غيابه الطويل عنها، ليبدأ يومه التالي في السلام على بقية السكان بمن فيهم سهيلة وأهلها وتبادل معهم أطرافا شتى من الأحاديث الجميلة (والسوالف) المشوّقة، وقد مرت إجازة العيد بما شهدته من العبادات الدينية والأفراح الاجتماعية دلّت على التآلف والتعاون بين أهل القرية كما هو معتاد لديهم، ولم يبق أمام شكيل وأقرانه ممن يعمل منهم خارج القرية إلا بضع ساعات قلائل سيغادرون بعدها كلٌّ إلى وجهته.
وقد اعتاد أبناء القرية على مغادرتها باكراً؛ حتى يتمكنوا من الوصول إلى وجهاتهم في الوقت الذي يتفق مع بدء ساعات أعمالهم؛ حيث يعمل كل منهم، فها هم قد أدوا صلاة يوم الجمعة في القرية، وعلى عجلة من أمرهم تناولوا وجبة غدائهم، وهمّوا بالمغادرة، فودع شكيل والدته وادعاً في يدها بعض الريالات علها تساعدها على نفقات احتياجاتها للأيام المقبلة، كما لم ينسَ وداعه أهل قريته واستراقه نظرات خاطفة إلى سهيلة بحضور أهلها وبعض السكان، وهو يحدث نفسه متسائلاً بقوله: متى ستجمعنا الأيام في منزل واحد زوجين على شرع الله؟
وغادر الجميع القرية سالكين طريقهم إلى المكان الذي سيتفرق جمعهم منه، وبوصولهم استقل شكيل سيارته، وها هو يصل أخيراً بسلام إلى العاصمة لينتظم في عمله ومدرسته منقطعاً عن وليفه الذي كان قد بدأ يتكيف معه، ولا يكاد ينقطع عن زيارته الدائمة والمستمرة، وقد يكون انقطاعه لظروف مردها ازدحام برنامجه اليومي، وإلى كون إجازته قد أعادت إليه ألفة البر والجبل ونسيان البحر، وهو لا يعلم أن هناك من يترقب عودته إلى ذلكم المكان أيضاً؛ وذلك لعدم اهتمامه بالأمر، إنها تلكم المرأة التي تأتي وحيدة في سيارتها، والتي لم تيأس من انتظاره رغم عدم معرفتها به، فحياؤها يمنعها من البوح بما في نفسها نحوه، ولكنها كانت تبدو مستمتعة بتصويب بضع نظراتها إليه من حين لآخر في أثناء فترة وجودهما في الموقع، ومرت بعض أيامٍ لم يقم فيها شكيل بزيارة البحر والمكان الذي اعتاد الجلوس فيه مع كتبه، لكن ها هو اليوم قد قرر أن يعود لسالف أيامه، وينتظم بارتياده للشاطئ، ذلكم المكان الجميل الذي سبق وأن ألفه كما ألف من قبله قريته، وها هي المرأة المترقبة لعودته تتنفس الصعداء مزهوّة بإطلالة بطلها، وكأنها خاضت لتوها معركةً ضروس خرجت منها منتصرة، فما الذي ستسفر عنه الأيام القادمة؟
في الوقت الذي ما تزال تتحين هي فيه الفرصة التي ستتيح لها التحدث إلى هذا الشاب، بينما شكيل منهمك في كتبه وعمله ولا مجال لديه لغير ذلك، ولكن في المقابل تسير الظروف بالمرء على غير دراية ورغبة منه، وبما لا علم به عما تخفيه له الأيام خلال حياته، فبينما كان يهم مساء ذات يوم بمغادرة الشاطئ؛ إذ بتلكم المرأة تطلب مساعدته على مضض واستحياء رغم أنها كانت تنتظر هذه الفرصة التي حصلت عليها أخيراً وبعد طول انتظار، والتي جاءت مصادفة وعن غير سابق موعد أو إنذار، فحين كان شكيل يَهُم بالمغادرة فعلت هي الشيء ذاته عندها انفجر أحد إطارات سيارتها نتيجة مرورها على مسمار من الحجم الكبير، أو ما يعرف محلياً بــ( الرّزة) كان رأسه المدبب للأعلى ثابتاً في لوح من الخشب دفنته العوامل البحرية في الرمال الناعمة ما ساعد على ثقب الإطار وإفراغ الهواء منه؛ مما سبب لها ذلك إرباكاً، وهي المرأة التي لا تقوى على استبدال الاحتياط بالإطارِ إن لم تكن معدومة الخبرة أصلاً في مثل هذه الجوانب، وأياً كانت الأسباب في فعل ذلك الموقف وحدوثه، لم يكن من الشاب الأصيل المتشرب بالشهامة والمتربي عليها إلا أن يهب بكل سعة بال ورحابة صدر لمساعدة المستنجدة، وما إن فرغ من ذلك حتى بادرت بدفع أجرة مساعدته لها، والتي أغضبته كثيراً، فقد عدّه تصرفاً لا ينم إلا عن فرص استغلالية وانعدام المروءة والإنسانية في نفوس بعض البشر، وأنه ليس ممن يستغلون مثل هكذا المواقف؛ ولذلك رفض بشدة العرض والتصرف منبهاً إياها بعدم تقبله مثل هذه التصرفات من أيٍ كان، مؤكداً لها أن ما قام به واجب مفروض عليه القيام به مضيفاً لها بأنه من المؤكد بأن أي شخص آخر سيقوم بما قام به، وابتسمت له شاكرة صنيعه لها ومعتذرة عن تصرفها معه، وخلال لحظات هذا الحديث بينهما عرفت أنه من غير سكان العاصمة كما خمّنت له ذلك، حينها عرّفها أنه من تلكم القرية التي قدم منها، وأنه موظف بالجهة الحكومية التي يعمل بها، ثم غادر مودعاً إياها بشهامة الرجال واحترام الذات دون حتى أن يفصح لها عن اسمه؛ ليقينه بأن ذلك ليس من شأنها.
وفي اليوم التالي وجد شكيل ذات المرأة أمامه في أحد أروقة الوزارة وبالدائرة التي يعمل بها، فرحب بها سائلاً إياها بما يمكنه أن يقدم لها من خدمات، فناولته إيصال معاملتها ومن خلاله عرف اسمها- جهينة- الذي صار لمعاملتها في الوزارة بضعة شهور دون أن تنجز، جاءت للوزارة، وكأنه حين أخبرها بالأمس بجهة عمله ذكّرها بمعاملتها المنسية هناك، وباطلاعه على معاملتها وجد أن الأمر يتطلب استكمال بعض الإجراءات من قِبلها وبمتابعة من شكيل، وبعد مراجعات عدة قامت بها جهينة للوزارة لإنهاء معاملتها، عرفت خلالها اسم هذا الموظف هادئ الطباع جميل المحيا- شكيل-؛ وذلك من خلال توقيعه على بعض الأوراق في معاملتها ومناداته باسمه بحضورها من قبل زملائه في العمل، فها هي أخيراً تتسلّم معاملتها من شكيل منجزة خير إنجاز، وهي في رضا تام بما قوبلت وعوملت به – مثنية على حُسن تعامله ورفاقه معها.
تُرى هل ستكتفي جهينة بما وصلت إليه؟ وما رد فعل شكيل تجاه ما قد يسوقه القدر إليه؟
ذلك ما سنعرفه بعون الله تعالى في الجزء المقبل.