فن التقدير: شعلة الإنجاز وروح الانتماء
خلف بن سليمان البحري
في كل علاقة إنسانية، هناك خيط رفيع يربط القلوب والعقول، يسمى التقدير، فهو أكثر من مجرد كلمة شكر تُقال على عجل أو إيماءة امتنان تُلقى بلا شعور، التقدير فن عميق يلامس الروح ويغذي النفس، ويُظهر أثره في كافة مناحي الحياة عندما يُمارس التقدير بصدق وإحساس، يتحول إلى قوة جبارة تحرك الأفراد، تعزز الأداء، وترسخ الولاء.
في عالم الإدارة، يُعتبر التقدير دعامة رئيسية لبناء بيئات عمل نابضة بالحياة، إنه المفتاح الذي يُغلق أبواب الاستياء ويفتح نوافذ الإبداع عندما يجد الموظف نفسه في بيئة تُقدّر جهوده وتحتفي بإنجازاته، يتحول من مجرد منفذ للمهام إلى شريك حقيقي في النجاح. هذا الشعور يولد داخله رغبة لا تنطفئ لتقديم الأفضل، ليس فقط لتحقيق أهداف العمل، بل لإثبات أنه يستحق هذا التقدير.
لكن التقدير في الإدارة لا يقتصر على الثناء أو منح المكافآت، بل يتجلى في أشكال متعددة، كلمة بسيطة تُقال في الوقت المناسب قد تكون أقوى من أي حافز مادي، إشادة علنية بإنجاز فرد، إشراك الموظفين في القرارات التي تخص عملهم، أو حتى تقديم ملاحظات إيجابية بطريقة بناءة، كلها طرقٌ تعكس جوهر التقدير.
وفي المقابل، عندما يغيب التقدير، يبدأ الأداء في التراجع، وتتسرب مشاعر الإحباط إلى نفوس الأفراد، فبيئة العمل التي تخلو من التقدير تشبه أرضاً قاحلة، مهما كانت الموارد متاحة، لن تزهر ولن تُثمر على العكس، البيئة التي يسودها التقدير تُشبه حديقة غنّاء، كل من يمر بها يجد نفسه جزءاً منها، ويعمل على أن تبقى مزدهرة.
التقدير لا يقتصر على الموظفين وحدهم فالإداريون والقادة أيضاً يحتاجون إلى الشعور بالتقدير، سواء من فرق عملهم أو من المؤسسات التي ينتمون إليها والقائد الذي يتلقى دعماً وثقة من فريقه، يجد نفسه محفزاً لاتخاذ قرارات أكثر حكمة وجرأة، وفي المقابل، فريق العمل الذي يشعر بتقدير إدارته، يعمل بطاقة مضاعفة، لأن التقدير يذيب الحواجز بين الإدارة والأفراد، ويخلق بيئة تقوم على الاحترام المتبادل والثقة.
أما عن تأثير التقدير على الولاء، فهو لا يُقارن، فالموظف الذي يشعر بأنه ليس مجرد رقم أو أداة، بل جزء لا يتجزأ من نجاح المنظومة، يصبح ولاؤه راسخاً. لن يبحث عن مكان آخر، لأن المكان الذي يُقدّره أصبح بالنسبة له بيتاً لا غنى عنه.
وتتجلى أعظم معاني التقدير في تعاليم ديننا الإسلامي، حيث قال النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم- : “من لا يشكر الناس لا يشكر الله”. إنها دعوة صريحة لزرع ثقافة الامتنان في كل التعاملات، سواء في الأسرة، العمل، أو المجتمع.
فن التقدير ليس رفاهية ولا إجراء شكلياً بل نبض العلاقات الإنسانية، وقاعدة أساسية لتحقيق النجاح في كل مكان. تخيل منظومة يُقدّر فيها كل فرد دوره ودور غيره، كيف ستكون النتائج؟ الإجابة واضحة: انسجامٌ، إبداعٌ، وأداءٌ يتخطى التوقعات.
لنبدأ من اليوم بممارسة التقدير، بالكلمة الصادقة، بالإيماءة الطيبة، وبالاعتراف بالجهود الصغيرة والكبيرة، لأننا بذلك لا نُحفّز الآخرين فحسب، بل نغرس في قلوبهم شعوراً بالانتماء يجعلهم يعطون بلا حدود، ويُحبون ما يفعلونه، ويرسمون مسار النجاح بأيدٍ ثابتة وقلوب ممتنة.