التَّعايُش السِّلْمِيّ فِي النَّحوِ الْعَرَبِيّ (1)
د. محمد عزيز عبد المقصود
أستاذ لغويات مساعد بكلية اللغة العربية
جامعة السلطان عبد الحليم معظم شاه الإسلامية العالمية ماليزيا
الإيميل /mohamedaziz@unishams.edu.my
mohammadaziz1974@yahoo.com
لعلّ قارئا يتساءل: ما العلاقة بين التعايش السلمي من حيثُ كونه مصطلحا متداولا لدى من يكتبون في الفكر والثقافة، وبين النحو العربي وقواعده؟
وهذه فكرة عنّت لي من خلال تدريس مادة النحو العربي لطلابي في الجامعة، وفي أثناء الشرح كنت ألحظ أن هناك قيما ودروسا أستوحيها من خلال العلاقات السياقية بين أبواب النحو العربي، فهناك حياة في قواعد النحو، وطالما استوقفتني عدة قضايا أجد نفسي أمامهما متسائلا: ما الدور الذي تؤديه هذه الكلمة في هذا المقام؟ ولماذا يحذف هذا جوازا، وهذا وجوبا؟ وما السبب في تقديم هذا وتأخير آخر .. إلخ؟ وكيف لنا أن نفسر ذلك بعيدا عن تعليلات النحاة؟
أسئلة كثيرة كانت تتراءى لي، وقد هداني الله تعالى إلى أن أنظر في العلاقات السياقية للكلمات بعضها مع بعض، مع ربط ذلك بالمعاني والقيم التربوية التي يوحي بها السياق، ومن ثَمَّ لاحظت أن المعاني تتوافق مع القواعد؛ فأنتجت قيما تربوية.
وقد دفعني إلى ذلك عدة أسباب، منها:
أولا: أنّ لقواعد النحو العربي دورا كبيرا في خدمة قضايا المجتمع، وإلقاء الضوء عليها.
ثانيا: أن هناك علاقة وثيقة بين النحو والمعنى، فليست قواعد النحو قوالب صماء، بل إنها قلوب تنبض بالحياة العميقة.
ثالثا: أنه لو أمكن أن ننظر إلى قواعد النحو من حيث تركيبها وعلاقاتها بعضها ببعض، وربط ذلك بجوانب الحياة؛ لأمكننا أن نستقي معاني عظيمة خاصة أن هناك علاقة وطيدة بين قواعد النحو والعلوم الأخرى .
والنحو العربي مليء بكنوز عظيمة من معانٍ ومفاهيمَ تربوية يمكن أن تُسهم في الارتقاء بالمجتمع، وتعمل كذلك على تنمية قدرات شبابه؛ لأنهم أساس التنمية المستدامة، وهذا يتطلب منا إعادة قراءة قواعده ودراستها نغوص في أعماقها، وننظر إلى بساتينها، ونشتم عبيرها الفواح، فتكون المعاني الجميلة؛ ومن ثم يولد الحب في قلوب من يعشق العربية وقواعدها.
وتقوم فكرة هذا المقال وما بعده -إن شاء الله- على تفسير بعض الظواهر النحوية التي تتعالق مع بعضها، وتتطلب سياقا توضيحيا يجمع بين المقال والمقام؛ وذلك من خلال ربطها بمفهوم التعايش السلمي واستخداماته مع بيان القيم التربوية والدروس المستفادة.
التعايش لغة:يعني “الحياة”، وهذا يدل على أن منْ يتعايشون مع بعضهم بعضا يحيَوْن حياة هادئة تحافظ على الأسس التي تربط بين العلاقات المتبادلة.(ابن منظور، مادة عيش 5/3190).
والتعايش اصطلاحا: يُقصد به “العيش المتبادل مع الآخرين القائم على المسالمة والمهادنة”؛ حيث إنه مصطلح ذاع صيته أواخر القرن العشرين؛ نظرا للمستجدات المعاصرة، والقضايا الدولية المتشعبة. ( د. المُرتضَى الزّين أحمد: 2004 )
ويعني كذلك أن هناك اختلافا بين جانبين يحاول كل منهما قبول الآخر والتعايش معه، مع التنوع في بعض المفاهيم والرؤى، لكن تبقى لغة الحوار والتفاهم والتعاون قائمة بينهما، وهذا ما نريده من خلال ربط ذلك بقواعد نحوية؛ لنرى كيف تتعايش هذه القواعد مع بعضها بعضا؟ أو من خلال الوسيط اللغوي الذي يُسهم في إيجاد لغة حوارية بينها؛ فينشأ التفاهم وقبول الآخر، ومن هذه الظواهر “نون الوقاية”.
نون الوقاية ودورها في تحقيق التعايش السلمي:
نون الوقاية ( نون العماد ) هي نون مكسورة تزاد قبل ياء المتكلم، ووظيفتها تقي الفعل من الكسر بعد اتصاله بها، وهنا موطن الصراع بين الفعل وياء المتكلم، فالفعل في هذا الموضع مبني على الفتح، والياء تتطلب كسر ما قبلها، ولا يمكن له أن يكسر لمناسبة الياء؛ فيأتي دور نون الوقاية لحل هذه الإشكالية، ويتجلّى ذلك فيما يأتي من توضيح.
عندما يتصل الفعل الماضي بياء المتكلم يلزم كسر الحرف الذي قبل الياء؛ مناسبة لها، مثل: (شاهدَ + ي) ، والحرف الذي قبل الياء هنا هو حرف “الدال”، ولا يمكن كسر “الدال” هنا؛ لأن عليها حركة بناء الفعل الماضي على الفتح “شاهدَ”؛ ولذا وجب البحث عن مخرج؛ للتخلص من كسر الدال التي عليها حركة البناء؛ فكانت نون الوقاية التي عندما نما إلى علمها هذه الإشكالية، أسرعت؛ كي تقدم الحل، وهي تدرك يقينا أن عليها دورا يجب أن تقوم به لغيرها مهما كلّفها ذلك من تضحيات، أو بذل، أو عطاء، وقد أدركت نون الوقاية أهمية هذا عندما قامت بدور الوسيط الحق الذي كثيرا ما نفتقده في حياتنا، ويكون هدفه الإصلاح بين الآخرين، إنه لمعنى جليل لا يدرك كُنهه إلا من ذاق حلاوته، وعرف آثاره العظيمة المترتبة على تقديم يد العون لهم.
جاءت نون الوقاية، فجاء الخير معها؛ حيث تدرك أن ياء المتكلم لا تقبل إلا كسر ما قبلها، ويأبي الفعل ذلك، فما كان منها إلا أنها توسّطت بين الفعل والياء؛ لتتحمل الكسر لمناسبة الياء، وتحافظ على بناء الفعل على الفتح، وتقيه من الكسر، قدّمت يد العون لغيرها تحمَّلت الكسر، وهي تعلم يقينا أن الأمر جلل، وليس سهلا، لكنها كانت متأكدة تماما أن البذل والعطاء من أجل الآخرين رسالة سامية، وكانت كذلك تدرك أن مَنْ أعان الآخرين في قضاء حوائجهم، وحل مشاكلهم أعانه الله تعالى، ويسَّر له حاله؛ ولذلك بعدما توسّطت “نون الوقاية” بين الفعل والياء، ورأت أثر السعادة يرتسم على وجه الفعل؛ لأنه لم تتغير حركته من الفتح إلى الكسر، وكذلك الياء تَحَقَّق لها هدفها من كسر ما قبلها من خلال حركة النون (شاهدَنِـــــــي) في هذا الوقت؛ أدركت “نون الوقاية”:
• أن الشعور بالآخرين أمر مهم، فمن شعر بغيره، وأحس بما يحس به؛ استطاع أن يقدم له حلولا لمشاكله التي تقابله في حياته.
• أن إدخال السرور على الآخرين له قيمة كبيرة في الحياة؛ فالشمعة تحترق من أجل أن تضيء لنا حياتنا.
• أن للوسيط دورا مهما في حياتنا، فعليه تُعْقد مسائل، وعلى يديه يكون حلها، فالله تعالى قد يختارك لمهمة، ويربّيك لفترة من الفترات؛ لأنه يعلم عِظم الأمر، والتبعات التي سوف تُلقى على عاتقك.
• أن هناك علاقة – لا محالة – ستولد بينك، وبين الآخرين خاصة من تتوسط بينهم، فلنوظف هذه العلاقة توظيفا جيدا؛ حتى يعود النفع على الجميع.
• أن من عاش لنفسه؛ فقد كثيرا من المعاني الاجتماعية التي بها يشعر الإنسان بإنسانيته، فالتواصل مع الآخرين، والإحساس بهم؛ يبني علاقة قوية معهم أساسها متين، وبنيانها مرصوص.
ما أجملك نون الوقاية! وما أعظم دورك! وما أحوجنا إلى تلك الوساطة! وللتعايش بقية..