أقسى من الحجر
أمل مصطفى
نعيش في عصر تتعدد فيه الأمراض والأسقام ومضاعفاتها، ولكن لكل مرض دواء يعالجه ويطيبه ويشفيه، أو مصل يقاومه ويحصننا منه.
وهناك أمراض ليس لها أعراض، فيبدو فيها الإنسان ظاهريًا أنيقًا متعافيًا، ولكنْ هناك مرضٌ يسري في أرجاء نفسه، ويحتل قلبه؛ فيعمل على تدميره وقتل إنسانيته، فيحوله مهما كان شكله جميلًا إلى إنسان قبيح مشوه باطنيًا، تلك هي أمراض القلوب التي تحول قلب الإنسان إلى قلب قاسٍ ميت مريض مغمور بالأحقاد والشرور.
نحن جميعًا نتساءل من أين أتت القسوة؟ أهي فطرة خلقنا عليها؟ وكيف تحجرت القلوب التي تنبض بالحياة في الصدور، وأصبحت أشد قسوة من الحجر؟ وكيف أصبحنا لا نتراحم بيننا، ولا نرحم بعضنا؟ كيف يعيش الظالم قرير العين ينام ملء جفونه، ويمرح ويسعد ويتباهى بظلمه، ونفسه مملوءة بالحقد والكره والقسوة لأحد، ولربما كان أقربهم إليه؟
فعلى أي فطرة خلق الظالم، وعلى أي دين يعتقد؟ وكيف يبرر ظلمه ويحلله لنفسه، ويحاول أن يقنع به من حوله أنه على صواب في طغيانه وبطشه؟
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الحكيم: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ). ( سورة البقرة: 74 )
فسبحانه الحق العالم بخلقه يشبّه تلك القلوب بأنها أشدُّ من الحجارة قسوة، وأنّ من الحجر ينبع الماء والخير، أما من تلك القلوب فلا ينبع إلا كل كره وحقد، فيا لهم من بشر، ويا لها من قلوب!
في العصر الحديث، وعلى أثر التقدم الذي يحدث فى بعض المجتمعات التي تدّعي الحداثة والتطور، فقدت تلك المجتمعات الكثير من معاني التعاطف والتراحم الإنساني والإخاء، حتى لم يجد الفرد من يحدثه، فكل فرد يمشي بمفرده، لا يهتم به أحد، وهو لا يفرق الكثير عند أحد، يريد أن يتحدث، فلا يجد من يسمعه، ويحتويه، ويحتضن غربة نفسه وألمها؛ فلجأ من فرط فقر العاطفة إلى تربية الحيوانات الأليفة التي تشعره بالألفة والاهتمام، التي تسمعه دون جدال واختلاف، تحتويه بنظراتها دون أن تقتل مشاعره بخناجر الكلمات، تناجيه وتحاكيه فقط بالإحساس والمشاعر.
فكم من بشر لجأ إلى الحيوان الأليف؛ ليشعر ببعض إنسانيته معه، وبالسلام والأمان في أن الذى يبوح به صدره لا يؤخذ ضده، أو يتنمر أحد عليه، وينتظر له غلطة ليغتاله نفسيًا!
يقول جبران خليل جبران:
وقاتلُ الجسمِ مقتولٌ بفعلتهِ
وقاتلُ الروحِ لا تدري بهِ البشرُ
فكم قتيل بيننا روحه تنزف وحدة ووجعا وظلما؟ وكم من ظالم يمشي متباهيا على جثث قتلاه ولا يبالي؟ وكم من العيون تبكي دون دموع من ألم الحياة وشدتها؟ وكم من النفوس يملؤها الأنين، وهي صامتة عازفة عن الكلام؟ فللصمت مهابة لا يعرفها إلا الرحماء.
لو تمكنا من رؤية قلوب البشر، لرأيت في كل قلب قصة وجع، نحتاج جميعًا صغارا أو كبارًا إلى الدعم النفسي، ونحتاج إلى الملاذ الآمن، من نلجأ له ليسمعنا فقط، ليحتوينا، ويضمد جراحنا، ويشد أزرنا، ويدعمنا، فنحن نحتاج لدفِء القلوب والرحمة فيها، وللحضن الدافئ المغمور محبة وسلاما وأمانا، فابحث عن الذي يمدنا بإكسير الحياة؛ كي نستمر بأمل ويقين وثقة.
كثيرًا ما كنت أسمع عبارة (كن قويًا)، فكنت أظن حينها أن القوة في القسوة والتجاهل واللامبالاة، أو كن قويًا في القوة الجسدية، ولكني أيقنت أن القوة المقصودة هي قوة القلب، وما به من إرادة في أنه مهما تحطم وتهشم، ما زال ينبض أملا وحياة، ويتدفق عطاءً!
لذلك، أما آن الأوان أن نفيق من غفلتنا؟ لمَ القسوة؟ لمَ الظلم والكره والبغض؟ وإلى متى سندبر لبعضنا المكايد والحيل؟ وإلى متى تكون الأذية والضرر نابعة من قلوبنا، ولا نتمنى الخير لبعضنا؟
أحدثك أنت، يا من تصلك كلماتي، وتقرأها، ماذا عن قلبك أنت؟ هل باللين الرحيم، أو بالقاسي الذي لا يرحم والذي يخشاه الناس من فرط قسوته؟
إذا أردت أن تشعر بلين القلب، تقرب إلى الله، واعلم أنها دنيا، فما من أحد خالد فيها، فكلنا راحلون بأعمالنا إلى عالم بلا عمل، عالم الجزاء، وليس أمامك إلا طريقان؛ طريق الجنة، أو طريق النار؛ فماذا تختار؟
أكثر من الطاعات والتوبة والاستغفار؛ فالذكر يلين القلب، وانظر بقلبك إلى كم من مرضى والآلام التي يشعرون بها وأنت معافى صحيح! استمع لأنين آهات الألم من صدر مظلوم لا يستطيع رد الظلم عن نفسه، ولتحمد الله على راحة قلبك وسكينته، فارحم يتيما وامسح على راْسه، واعطف على كبير جار الزمن عليه، ولا يجد من يعوله ويساعده، تكفل بأرملة لا تستطيع العيش والإنفاق، فينابيع الخير كثيرة، فهل من باحث عنها؟ كن قويًا بذاتك، رحيمًا بقلبك، ومختلفًا، فالعالم مكتفٍ قسوة، وعش بالإنسانية، وكن على فطرة الله التي خلقك عليها، وكن كما أنت؛ لأنك جميل كما أنت..