الناس في السفر
د. عبدالحكيم أبوريدة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم وبعد، فتجد في السفر من يحنو عليك كأنه أبوك، ومن يشد الله تعالى به عضدك كأنه أخوك!
ومن يضع أنفه في الإناء الذي تطبخ فيه؛ ليتكشف أحوالك، ومن يحاول أن يثبر غور بئرك ويحركه في ذلك دافع حب الاستطلاع، أو دافع الحقد الدفين، أو دافع الحسد، أو دافع الغيرة، أو دافع الانتقام، أو دافع الانتصار للنفس، أو دافع الأثرة.
كما تجد من هو في حاله، لا يصيبك منه خير أو شر، ولا نفع ولا ضر.
كما تجد النمام، والقتات، والثرثار، والمهذار، والوقور، والحذر، والكتموم، والنقاد.
وتجد الآمر بالمعروف، الناهي عن المنكر وإن أصابه ما يكره.
وتجد الناصح الأمين، والغاش الخؤون.
وتجد السمح الكريم، والبخيل اللئيم.
ولهذا التنوع أسباب منها:
• البيئة التي جاء منها هذا المسافر، فهي على أخلاقه طابع، و قديمًا قالوا: الناس ببيئاتهم أشبه منهم بآبائهم.
• الأمراض النفسية والقلبية التي تصيب المسافر، فلا يقوى على مقاومتها أو علاجها.
• الجهل بحقائق الأمور، ولطائف الأقدار.
• البناء القيمي الخاطئ لدي المسافر.
• غياب الوازع الديني، وتملك الشهوات من النفس والقلب.
• الغزو الثقافي والفكري اللذين أجبرا الإنسان على الأنانية والأثَرة وعدم الإحساس بغيره، محققًا المبدأ القائل: أنا ومن بعدي الطوفان.
• الجمود الفكري والتبلد العاطفي، فيصبح المسافر ذا اتجاه فكري واحد لا يقبل، ولا يتسامح مع مَنْ خالفه في الفكر، وإن كان مصيبًا، كما يصبح المسافر قاسيًا تجاه غيره لا يرحمه، ولا يحنو عليه، ولا يرق له مهما كانت الأسباب.
وتعجبني الحكمة القائلة:
“ثلاثة لا يستوحشون في غربة: الفقيه العالم، والبطل الشجاع، والحلو اللسان”.
وتحتاج الغربة إلى قوة، وشجاعة، وعلم، وحلم، وفهم، وبصيرة، وذكاء، وفطنة، وتجلد، وضبط للنفس، وبصيرة نافذة، واقتصاد وتدبير، فلا عال من اقتصد، ولا ندم من تدبر، وتبصر، وأحسن التصرف في الأمور، كما تحتاج الغربة إلى صيانة النفس، وحملها على ما يرفعها، ولا يضعها، ويزكيها، ولا يدسيها.
ثم إن السفر بعد ذلك لتارك في النفس آثارًا لا تمحى، خيرًا كان أو شرًا يبقى في ذاكرة الإنسان ما بقي حيًا.
وقديمًا قال الشاعر:
تَغَرَّبْ عَنِ الْأَوْطانِ في طَلَبِ الْعُلا
وسافِر فَفي الأسفارِ خَمُـــسُ فَوائِدِ
تَفـرُّجُ هـمٍّ واكْتِسابُ مَعيشَةٍ
وَعِلْمٌ وَآدابٌ وَصُحْبَةُ ماجِدِ
هذا والحقيقة أن الإنسان في سفر منذ ولد إلى أن يموت، فدنياه هي طريق سفره، وأخراه هي محطة وصوله، والقبر أول منازل الآخرة، فهنيئًا لمن تمسّك بالعلم والدين وهو مسافر إلى فردوس رب العالمين، فاستحق أن يكون من الناجين.
وسحقًا لمن أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، وخالف – مصرًا مستكبرًا- العلم والدين مسافرًا إلى نار رب العالمين؛ فاستحق أن يكون من الخاسرين.
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.