انْصَحْني، ولا تَفْضَحْني
خلفان بن ناصر الرواحي
ما أروعه خلقًا رفيعًا، وما أجمله سلوكًا وأدبًا، وما أعظمه وقعًا على القلب! إنه أدب النصيحة والتوجيه السليم، دون توبيخٍ أو شماتةٍ أو تنقيصٍ لمقامٍ أو تنغيصٍ لنفوس.
“رَحِمَ اللهُ امرأً أَهْدَى إِليّ عُيوبي” كلمات قالها أميرُ المؤمنين والخليفة الراشد عمر بن الخطاب – رضي الله عنه وأرضاه – وقد اشتهر بعدة مواقف: منها عندما كان يتكلّم مع سلمان الفارسي – رضي الله عنه – عن بعض عيوبه، وطلب سلمان من أمير المؤمنين أن يعفيه عن منصبه، ولكنها الميزة العمرية التي تربّى عليها في مقام النبوة جعلته ينصح، ويتقبل النصيحة، ويسأل عن عيوبه التي يراها غيره، ولا يعلمها، فما أعظمه من مقام! وما أجملها من كلمات توزن بالذهب!
لقد شاع في زماننا قلة الوعي والإدراك لعواقب الأمور، ولم يراع بعضنا مشاعر الآخرين في توجيه التوبيخ واللوم، وزاد الطين بلة أنّ أمثال هؤلاء لم ينظروا لمرآة عيوبهم قبل الحكم على صور غيرهم، فتجدهم يقدحون، ويوجهون النقد اللاذع وهم كلهم عيوب من أعلى الرأس إلى أخمص القدمين.
لقد علَّمنا ديننا الحنيف كيف نقدم النصيحة والتوجيه، فكلُّ من كان همه النصح لغيره؛ عليه أن يتفحص عيوبه أولًا، ويسأل غيره أو أقرب الناس إليه؛ وذلك من باب المراجعة والتوجيه السليم الذي يعزز مكانته، ويحفظ سمعته، ويجنّبه الكراهية، وعدم الرضا من الله ومن الآخرين، فكل من كان أرجح عقلًا، وأنضج فكرًا، وأقوى تقوى، وأعلى مكانة أو منصبًا؛ كان من الواجب أن يكون أكثر تواضعًا، وأنقى قلبًا من الكبر والإعجاب، وأعظم عزة لنفسه، وهذا – في حد ذاته – كرامة وسمو، ويكاد يكون نادرًا في زماننا، ويعز وجوده.
فلا زلنا نبحث عن أمثال هؤلاء وهم ندرة، فقليلٌ في الأصدقاء أو الأقرباء من يكون مخلصًا صريحًا في نصيحته، وبعيدًا عن المداهنة، يخبرك بالعيوب، وينصحك، ولا يجاملك، ولا يزيد فيها، ولا ينقص منها شيئًا، فأين مَن لا يخفي علينا عيوبنا، أو يرى مصلحته فينا بالنصيحة، ولا يغلفها بالمصلحة، وليست له أغراض ترى ما ليس عيبًا، أو يخفي عنا بعضها؟ فقد ورد في الأثر أنه قيل لبعض العلماء – وكان معتزلًا عن مخالطة الناس، ومنطويًا عنهم: لِمَ امتنعت عن المخالطة؟ فأجاب: وماذا علّني أصنع بأقوامٍ يخفون عنّي عيوبي؟
فهكذا هو طموحنا وطموح كل صاحب ذي لبّ في التنبيه على العيوب غير ما نحن عليه اليوم؛ حيث يرى الغالبية منا في زماننا هذا أنّ أبغض البشر هم الناصحون المخلصون لنا، والمنبهون لنا عيوبنا ونواقصنا، وفي المقابل يرون أن أحبّ الناس هم الذين يمدحوننا، ويثنون علينا، ويسمعون، ولا يتكلمون، ولا يعلمون أنّ ذلك المدح مذموم وممقوت، وله من الأضرار العظيمة؛ كالكبر والإعجاب، والكذب، والسّخط.
وهذا دليل قاطع على ضعف الإيمان، وقلة الإدراك، وهو خلق ذميم، ويُعد من الأخلاق السيئة الأعظم ضررًا من الهوام والحيّات ونحوها، فَلَو أن إنسانًا نبّهك على أنّ هناك حيةً قريبةً منك وهي خطر عليك لشكرته، ودعوت له، وأعظمت صنيعه ونصحه، واهتممت في إبعادها عنك أو قتلها، وحرصت على ذلك، وما هي إلا مجرد ضرر قد يكون مؤقتًا على البدن فقط، ولن يدوم ألمُه طويلًا.
وعليه فإنَّ علينا جميعًا أن ننصح، ونهدي غيرنا عيوبه بقدر ما نستطيع، ولا نخجل من تقديمها، وأن نتقبلها من غيرنا برحابة، فضرر الأخلاق الرديئة علينا وعلى غيرنا نخشى دوامها حتى بعد الموت، وعلينا أن نقابل نصح الناصحين بقلوبنا بصدق المشاعر والتقدير، فمع أنّ كلًا منا ناظر، وأبصر بنفسه، لكنه أحوج ما يكون لمرآة غيره؛ ليعلم عيوبه.