الميراثُ الحقيقيُّ
د. محمد عزيز عبد المقصود
أستاذ لغويات مساعد بكلية اللغة العربية
جامعة السلطان عبد الحليم معظم شاه الإسلامية العالمية ماليزيا
الإيميل /mohamedaziz@unishams.edu.my
mohammadaziz1974@yahoo.com
ينشغلُ كثيرٌ من الناسِ بقضيةِ الميراثِ، وما يتركونهُ لأبنائِهم مِنْ بعدِهم، ويظلّون مدى أعمارِهم والقضيةُ تملأ جلّ أوقاتهم، ويسلكونَ مسالكَ عدة في إتاحةِ هذا الميراثِ، وكأنّه المعينُ الأساسُ للأسرةِ في حياتِهم بعدَ رحيلِ عائلِهم، ولا غبارَ في ذلك ؛ فلكلٍّ فلسفتُه، وتفكيرُه، ورؤيتُه، ولعلّ قراءتَهم تتناسبُ مع أنْ تتركَ أولادَك أغنياء خيرٌ من تركِهم فقراءَ.
وثَمَّةَ قراءةٌ أخرى لميراثٍ خفيٍّ نحتاجُ إليه في عصرِنا هذا، وما نتركُه لأبنائِنا مِنْ بعدِنا، دعونا أوّلا نؤكد أنَّ لكلٍّ منّا إمكاناتٍ اختصَّه الله – عزَّ وجلَّ – بها، وصفاتٍ مختلفةً عنْ غيرِه، وكلّ منّا يحيا، ويعيشُ بفلسفته وقراءته للحياة، والتفكير الواعي نعمةٌ مِن الله تعالى اختصّ به مَنْ أراده مِنْ عبادِه، ووهبه قدراتٍ تختلفُ عنْ غيرِه، وقدْ نكتشفُ هذا الأمرَ عندنا، وقدْ لا ندركُ أبعادَه وصورَه.
وفي أسرتِنا الصغيرةِ التي نعيشُ معها نرى أبناءَنا، ونحيا معَهم ما قدّره الله تعالى مِنْ عمرٍ، وقد ينصرمُ هذا العمرُ، ويمرُّ سريعًا، ولمْ ندركْ أمرًا مُهمًّا كنّا في حاجةٍ لاكتشافِه مُبكرًا عندَ أبنائِنا، بل أذهب أبعدَ مِنْ ذلك، فأقول: إنَّ بعضَنا لمْ يفكر في هذا الأمرِ مطلقًا؛ لانشغاله بمعطياتِ الحياةِ وشؤونِها.
وأعني بهذا الأمرِ المهمِّ الميراثِ الحقيقيّ الذي هو أعظمُ شيءٍ نقدّمُه لأبنائنا في حياتهم؛ وذلكَ يومَ أنْ نكشفَ لهم ثرواتِهم الحقيقيةَ مِن التفكيرِ الإبداعيّ، والقدرة العقلية في التعاملاتِ الحياتيّةِ، والإمكانات المتنوعة التي وهبهم الله تعالى إيّاها، وما أكثرَها!
إذا استطعنا أنْ نحييَ هذا الأمرَ في نفوسِ أبنائِنا وبناتِنا في حياتهم؛ بحيثُ ينطلقُ كلٌّ منهمْ مِنْ قدراتِه التي يمتلكُها، لا مِنْ قدراتِ غيرِه فإنَّه سيكونُ مختلفًا عنْ الآخرين – لا محالةَ في ذلك – بلْ سيعودُ الخيرُ على الجميعِ على الفردِ، وعلى الأسرةِ، وعلى المجتمعِ عامةً؛ لأنَّنا استطعنا أنْ نكتشفَ الثروةَ الحقيقيةَ التي كنّا لا نُدركُ أبعادَها، وشَحذْنا هممَ أبنائِنا وبناتِنا نحوَ رؤيتِهم للحياةِ مِنْ منطلقِ إمكاناتِهم وقدراتِهم؛ لذا سنجدُهُمْ يضعون أهدافَهم، ويسعون لتحقيقِها وهم سُعداء بالحياة، ومُطمئنون لها، فلا خوفَ، ولا قلقَ، ولا اضطرابَ، وإنما اطمئنان، وثقة، وثبات، وحينئذٍ سنشاهدُ النجاحَ حليفَهم، والمستقبل المشرق أمامهم، ونحنُ مطمئنون عليهم، وراضون عنهم، وبما يفعلونه، وبهذا نكونُ قد قدّمنا نموذجًا نافعًا للمجتمعِ يُحتذَى به، وبنينا لبنةً في بناءِ وطنِنا الذي نعيشُ فيه، ونستمتعُ بخيراتِه.
وعندما ندركُ ذلك، ونؤمنُ به، ونبدأُ مرحلةَ التنفيذِ فإنّنا سنقدمُ حلولًا متنوعةً لمشاكلَ أسريةٍ كثيرةٍ يُعاني منها مجتمعُنا، وفي إمكانِنا أنْ نصحّحَ مفاهيمَ لدى أبنائِنا مِنْ خلالِ لغةِ الحوارِ الأسريّ البنّاءِ الذي شعرَ بهِ الأبناءُ قبلَ الآباءِ؛ ولذا فإننا سنرتقي بأنفسِنا وأبنائِنا ومجتمعِنا نحوَ عالمٍ آخرَ، لا أقولُ مثاليًّا، وإنما عالمٌ نَنْشُدُه، ونتمنّاه، ونأمُلُ تحقيقَه، هذا العالم الذي يُعد البنيةَ التحتيّةَ لاستقرارِ المجتمعاتِ، وبناءِ الحضاراتِ.
فلنكنْ واثقين مِنْ أنّ نظرتَنا إلى مفهومِ الميراثِ الحقيقيّ ليستْ حُلمًا، أوْ فكرةً عابرةً، بل واقعًا ملموسًا يمكنُ تنميتُه واستثمارُه جيّدا، وخيرُ التنميةِ والاستثمارِ التنميةُ الأسريّةُ التي تُعدُّ قوامَ المجتمعِ ورقيّه، فكمْ من ثرواتٍ تُنفقُ في مجالاتٍ متنوعةٍ وعائدُها قليلٌ! في حين مفهوم الميراث الحقيقيّ لا يكلّفنا سوى الانتباهِ لقدراتِ أبنائِنا، ومتابعتها جيّدا، والعمل على تنميتِها واستثمارها، وتوجيهِهم نحوَ أهدافٍ تتناسبُ مع ما وهبهم الله تعالى إيّاه، وليكونوا في مقدمةِ أولوياتنا؛ فهمْ نبضُ الحياةِ ونعيمُها وزينتُها، ولأجلِهم يُبذلُ كلّ غالٍ ونفيس.
وخلاصةُ القولِ: إنَّ الميراثَ الحقيقيَّ الذي نُقدّمه لأبنائنا هو ما نكتشفُه عندَهم مِنْ ثرواتٍ عقليّةٍ، وإبداعاتٍ فكريةٍ؛ فنضعُهم على بداياتِ الطريقِ الصحيحِ في الحياةِ، وليس كلّ ما نتركُه لهمْ مِنْ ثرواتٍ ماليةٍ فانيةٍ قدْ تكونُ يومًا ما سببًا في قطيعةِ رحمٍ، أو انقساماتٍ أسريّةٍ متوارثةٍ كنّا في غنىً عنْها لوْ أدركنا معنى الميراثِ الحقيقيّ.