العذوبة في الكلام ودقة المغزى
خلفان بن ناصر الرواحي
يقول الدكتور محمد حسنين أبو موسى، وهو أستاذ لغوي وأستاذ البلاغة في جامعة الأزهر:” تأكد أن العذوبة في الكلام ليست عذوبة ألفاظ، إنما هي عذوبة في النفس سقطت على الكلام فأصابه منها ما أصاب”. نعم قد تتصادف بعض مجريات الواقع بين الذات والذات نفسها، وبين الذات وواقع الحال الذي نتواجه ونصطدم به في كثير من الأحيان، فتخرج الكلمة في غير موضعها، وتتصادم مع القناعة والاتفاقية الضمنية التي نؤمن بها في كثير من الأحيان، وتتلاشى في أحيان أخرى وكأنها لا قيمة لها ولا مغزى؛ فتكون حينها تلك الكلمة باقية في صراع داخلي أو في مهب الريح، وكأنها جاءت دونما قناعة ولا اتفاق ضمني مع الذات.
فهكذا هي كلماتنا إما أن تكون عذبة كعذوبة الماء السلسبيل الخالي من الشوائب؛ فتهنأ النفس وتتصالح مع نفسها ومع الآخرين، وإما أن تكون ملوثة بشتى صنوف العوالق والأكدار؛ فتكدر الفكر والبال، وتصل إلى ذروة الصراع مع النفس ومع الآخرين.
لهذا نجد أن السلوك البشري المنبثق من الفطرة التي فطر عليها في أسرته، ومجتمعه، ووطنه، هي المؤشر الأكثر شيوعاً في مقياس انبثاق الكلمة من منظوري الشخصي، فكلما كانت البيئة خصبة بينابيع الكلمة الطيبة، فحتماً ستبقى كالشجرة الطيبة التي أصلها ثابتٌ وفرعها في السماء، أما إن كانت ملوثة بشتى صنوف التراكمات السلبية والكلمات النابية، ففي أغلب الظن لا يسلم من الوقوع في وحلها إلا من رحم ربي، وخاصة إذا طغى على الاتفاق الضمني مع الذات مبدأ الغرور، ورفع شعار المصلحة الشخصية، وعلو الجاه والنسب، فتصبح الكلمة حينها صادرة كأنها شجرة خبيثة ويجب اجتثاثها أو نبذها من حقل الأبجديات الطيبة.
فمما يؤسف له بأن هناك أصنافاً من البشر ما زالت تعيش في زمن القبلية والجاهلية الأولى، التي يطغى عليها مبدأ ” العزة بالإثم” ولا تريد أن تخرج نفسها من هذا الوهم الذي تتفوه به في كلماتها، وينعكس ذلك في سلوكها وتفاعلها مع الآخرين، وتنطق بعض الكلمات التي تعتقد أنها الإشارة ذات المدلول في المغزى عندما تتحدث مع الآخرين لترسل إشارات الوهم، ولا تفرّق بين جهل وثقافة ووعي من تخاطب!
نعم لدينا قناعات بأن هناك فروقاً بين البشر من حيث السلوك والتربية والجاه والنسب، ولكن هناك أيضاً مبدأٌ مشتركٌ بأننا جميعاً أبناء آدم وحواء، وربنا واحد، ووطننا واحد وهو الأرض مهما اختلفت مسميات الأمكنة والأزمنة، ومهما كانت الفوارق بيننا في اللون والجنس، والغنى والفقر، والقوة والضعف، والجاه والنسب، واللغة والدين، فانتقاء الكلمة له مدلوله ووقعه على النفس، وهي بمثابة مفتاح القلوب من حيث الدلالة والمغزى.
إذاً مهما وصلت مكانتك أيها الإنسان، تذكر أنك لست إلا مخلوق جاء من ماء مهين، وجسمك ما هو إلا من طين لازب، وكل من هم تتعامل معهم وتتخاطب معهم هم بشرٌ مثلك، فاختر كلمتك الطيبة عندما تنطق بها ويخرجها لسانك الضعيف، وركز فيما تقول من حيث اللفظ والمغزى، فإن أردت أن تكسب أسماع ورضا الآخرين فلا تتصنع الكلمة، وتخلط فيها بعض الكلمات التي تنمّ عن باطنٍ ملوث تسوده نكتة الكبرياء، فتلعثم لسانك بكلام معسول، وهو في حد ذاته كلام ظاهره وباطنه مكشوف مغزاه من حيث الحجة والمنطق، ولا يصنع لك قيمة في نفوس العقلاء، وما ذلك إلا ضرب من ضروب الجاهلية والعصبية المقيتة، وتذكر قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَآءِ* تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ* وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ* يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخرةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ* أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ* جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ* وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ* قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلالٌ} (24ـ31)-سورة إبراهيم.