*أخبئ الألم وأريد صديقاً*
لولوة القلهاتي
أخبئ الألم في الجانب الأيسر من صدري، وأتحسسه دائماً كأنما أتحسس شيئاً ثميناً وضعته في جيب سرّي داخل ملابسي، لأتحقق من وجوده هناك، وأني لم أفقده.
حزنٌ دفين نشط تحت أضلعي، تنكأه أخبار الموت لتبعثهُ حياً فيبدأ ثورانه من جديد مرةً تلو أخرى.
“أتعلمين أي حزن يبعث المطر؟” يقول بدر شاكر السياب في قصيدته الشهيرة أنشودة المطر، أي حزن قد استولى على هذا القلب، واحتله واستوطنه رغم محاولاتي اليائسة وربما البائسة للتعالي عليه وتحديد حدوده وتقعيد قواعده وسَنِّ قوانين لظهوره علانية على شكل احمرار في العين فقط، دون السماح للدمع بالانسكاب أمام أحد؟!
ليس مسموحاً لأحد غيري أن يسمع النشيج والبكاء ويرى الدموع. “الحزن لنا وحدنا، أما الفرح فنتقاسمه مع الناس” هذا هو المبدأ. ما ذنب الناس حولي كي يعيشوا ألماً ليس ألمهم، وحزناً لا يخصهم، وشوقاً أبديَّاً إلى حجر ثمين سقط من عقدي أنا، وأنا وحدي كنت أمتلكه وأعتني به وأتلمسه وأتفقده وأشمه وأقبله وأضعه على صدري، والآن بتُّ أفتقده، ومكانه في ذلك العقد الثمين فارغ وسيبقى فارغاً؟
“أي حزنٍ يبعث المطر؟!” يا سيّاب غير أنه لا مطر في مسقط الآن في هذه الساعة من الليل، إلا أن الحزن قد بُعث من سباته، وقامت قيامته في قلبٍ يشعر بالوحدة والعزلة رغم الضجيج والناس.
في هذه الليلة أعدت اكتشاف طريق “مدن الأحزان”. وتتبعت خارطة الطريق المؤدية إليها، ومما اكتشفته من معالم مدينة أحزاني أن حزني قد بدأ من كوني بلا صديق بشري حي من لحم ودم، مما ولَّد فراغاً عميقاً جداً في روحي، أشبه بتلك الحفرة التي يخلفها ارتطام جُرمٍ سماوي ضخم بالأرض، وسرعان ما تمتلئ الحفرة بالمياه المتسربة من الأعماق، والتي ستعمل على إذابة جدران الحفرة فتغدو واسعة بمرور الزمن. إن الحفرة التي خَلَّفَها عدم وجود الصديق اتسعت في داخلي وامتلأت حزناً آسناً مُراً مع السنين. فمضيت “أصادق الشوارع
والرمل والمزارع
أصادق النخيل.
أصادق المدينة
والبحر والسفينة
والشاطئ الجميل.
أصادق البلابل
والمنزل المقابل
والعزف والهديل.
أصادق الحجارة
والساحة المُنارة
والموسم الطويل” وليس لي صديق. كأن الشاعر محمد الثبيتي قد وضع يده على الجرح تماماً، وكشف لي عن سر السر.
أريد ذلك الصديق الذي يتحدث عنه الناس وتُشيد به القصص وتُثني عليه، وتمجده المسلسلات والروايات والأفلام وقصص الأطفال والرسوم المتحركة. كل الناس عداي لديهم ذلك الصديق الذي خرجوا به من ممرات الحياة الطفولية وأزقتها نحو دروب ساروا فيها سوياً، وتقاسموا الأوقات السعيدة والتعيسة، والضحكات المكتومة والمجلجلة، والنكات السخيفة والحركات “البايخة” والإشارات التي لا يفهمها غيرهم، كأنها شفرة سرية ابتدعوها لتبقى بينهم ولهم وحدهم. كل الناس لديهم ذلك المخلوق المدعو “صديق” يجلسون أمامه كأنما يجلسون أمام مرآة يرون فيها أناهم. يتحدثون إليه كأنما يتحدثون إلى أنفسهم بلا خوف وبلا وجل وبلا خجل، وبلا تنسيق وبلا مجاملة وبلا مماطلة، وبلا موضوع حتى! بلا شيء تماماً. صديق تحدثه باهتمام أحياناً وبلا مبالاة أحياناً أخرى. تحدثه عن السياسة وعن الطبخ، تحدثه عن “هرن” السيارات المزعج وعن انقطاع الكهرباء، عن قطة الجيران وعلبة السردين، عن كل توافه الحياة ومُهِمَّاتها، تحدثه وهو يسمعك ولا يمل منك ولا من حديثك، ولا يستبطئك حينما تتعثر الكلمات على لسانك، ويتعذر عليك إيجادها، فتنقر على جبهتك محاولاً استخراج الكلمة المناسبة التي ربما تختبئ ب”لعانة” تحت عظام جمجمتك السميكة متلكأة وليس لها رغبة في إسعافك. صديق يسمعك بلا أحكام مسبقة. لا تربص، لا تصيُّد، لا غضب. لا شيء سوى الاحتواء والفهم العميق والضحك والهراء اللذيذ الذي ينتهي بطلب سلفة ١٠٠ ريال، ورد تتلقاه منه “لو بعتني في السوق والله ما أجيب هالمبلغ”، وكلاكما يعرف أن كليكما تكذبان، لا أنت تحتاج لل١٠٠ ريال ولا هو “مفلس”. صديق يساعدك على فهم نفسك، كما أنه لا يتردد إن لزم الأمر أن يفتح جرح قلبك القديم ليعقِّمه ويعيد خياطته؛ ليلتئم بدل أن يتعفن داخلك ويسمم حياتك ويقتلك. صديق لا يتردد في صفعك إن لزم الأمر ليوقظك من غفلتك، ولا يتوانى في لي ذراعك ليقوم اعوجاجك ويعيد جبر كسرك. صديق لا يتأخر عنك يوماً، فأنت هو ولا يرى في الناس من هو أهم منك لأنه أنت.
إن معرفتي المتأخرة لنفسي، وإعادة اكتشافي لمدينة أحزاني العميقة عرّفتني أنها تَكَوَّنَت في الأصل من ذلك الفراغ الموحش الذي كان يجب أن تكون فيه وتملأه أناي الأخرى والتي خاطبها سعدي الشيرازي ب “يا أنا” في قصيدته العميقة عن المحبوب:
“قال لي المحبوب لمَّا زرته
من ببابي؟ قلت بالباب أنا
قال لي أخطأت تعريف الهوى
حينما فرقت فيه بيننا..!
ومضى عام فلما جئته
أطرق الباب عليه موهِناً
قال لي من أنت؟ قلت انظر فما
ثَمَّ إلا أنت بالباب هنا
قال لي أحسنت تعريف الهوى!
وعرفتَ الحُبَّ.. فادخل يا أنا”