عالمان أزهريان خفيان
د. علي زين العابدين الحسيني
هل أراني بعد كتابة هاتين الترجمتين أشعر بالراحة، أم أنّ الندم والأسى سيغلبان عليّ طيلة عمري؛ لأن الشخصيتين لم يعطيا حقهما في التدوين والكتابة عنهما خاصة أن سيرتهما مليئة بأعطر مواقف التضحية والبذل في سبيل العلم والتعليم.
أرى من الواجب عليّ أن أقرّ بتقصيري غير المتعمد في حق الشيخين، أما الأول فلأني لم أزره إلا مرة واحدة كانت لها بالغ الأثر علي، وكان بإمكاني أن أزوره مرات، ولا أذكر سبب امتناعي عن ذلك مع أن عادتي زيارة مَن أعرفهم من الأعلام، ولا أكاد أفوت فرصة ذلك أبداً، لا لشيء، وإنما لأني أجد قلبي مع هؤلاء، وأما تقصيري مع الآخر فلأني لم أدون سيرته مع كونه شخصية فريدة تستحقّ العناية، وعذري في ذلك أنّه كان قليل الكلام عن نفسه، وقد حاولت لكني لم أوفق.
هما عالمان أزهريان ضربا عليهما أستار النسيان، والغريب أن النسيان لحقهما أيضاً في حياتهما، وأما بعد مماتهما فلا أخالك يخفى عليك دنيا عدم الوفاء التي نعيشها، ولذلك ما أذكره هنا هي معلومات قليلة بالنسبة لحياتهما المليئة بالأحداث حاولت تسجيلها في هذا الوقت؛ خوفاً من ضياعها، فقد لا تسعفني فيما بعدُ بنات الذاكرة وأولادها!
(1)
العالم العابد أحمد بن حسن رجب الأزهري الشافعي
قد تتكاثر مواقف بعض المشايخ عندك حتى ليزحم بعضها بعضاً، وقد تقل المواقف عن آخرين، على أن موقفاً واحدًا قد تتأثر به عن المئات منها، وهناك موقف واحد من حياة هذا الشيخ الخفي يظلّ مرموقاً ذا دوي في سمعي ما حييت، ويدور في ذهني من حينٍ لآخر، وهو أنّ هذا الرجل العابد الزاهد كان مقبلاً على ربه بكليته، سالكاً طريق قربه، خالي القلب عن الدنيا وزينتها، فترى العبادة والزهد في وجهه وبين عينيه، وهذا سره في جذب النفوس إليه ولو كانت الزيارة واحدة، حتى يخيل إليك أنه رجلٌ عاش في غير زمانه.
أجتهد في استحضار بعض المعلومات حول الشيخ الصالح البركة أحمد بن حسن بن جابر بن رجب الأزهري الشافعي، فقد ولد المرحوم يوم الأربعاء ٢٨ من شهر جمادى الأولى سنة ١٣٤٣، يوافقه ٢٤ من شهر ديسمبر سنة ١٩٢٤م في أسرة متوسطة الحال، وحفظ القرآن الكريم -كما جرت العادة- في سن مبكرة، والتحق بالأزهر الشريف، وانتظم في سلك تعليمه حتى حصل على الشهادة العالية من كلية أصول الدين سنة (١٩٥٣م) تخصص عام، ثم نال العالمية مع إجازة التدريس سنة (١٩٥٤م)، ثم حصل على درجة الماجستير في التفسير سنة (١٩٧٠م)، وعمل مدرساً لمادة “الخط” بالمعاهد الأزهرية، وتزوج ابنة الشيخ العلامة الشهير محمد السماحي.
قرأ صحيح البخاري من أوله إلى كتاب البيوع على شيخه العلامة محمد علي أحمدين بالمسجد الزينبي، وأجازه عامة ما له كما كتبتُ عنه، والأخير يروي عن العلامة محمد حبيب الله الشنقيطي بسنده المعروف، وغالب أساتذة الأزهر في ذلك الوقت يروون عن الشيخ الشنقيطي.
عرفته وزرته في بيته بالقاهرة عن طريق شيخنا السيد الدكتور نافع السنوسي، فقد كان صاحباً لفضيلته دائم الزيارة له، وقد قرأتُ عليه في زيارتي قطعة من صحيح البخاري، وجزءاً من كتاب شيخه “ضوء القمر في شرح نخبة الفكر” وأجاز لي عامة ما له.
انقطع شيخنا آخر عمره في بيته لقراءة القرآن والعبادة، ومما حدثني به أنّه صلى الفجر ذات يوم وقرأ القرآن، فختم مع صلاة العصر، وهي مرة واحدة لم يعد إليها، وكان يشغل وقته في المواصلات العامة بقراءة القرآن الكريم، فقرأ يوماً ما إحدى عشر جزءاً، وحدثني عن شيخه محمد علي أحمدين الأزهري، عن شيخه محمد حبيب الله الشنقيطي قوله: “السنة إذا تزين بها أرباب الأهواء صارت بدعة”، وتوفي شيخنا (تقريباً) سنة 1423.
(2)
الفقيه الفرضي محمد أنور المنصوري الشافعي
وا احزناه على عالمٍ كان حياً بيننا لم تدون سيرته!
وا حسرتاه على عالمٍ بعلم الفرائض فذهب كأنه لم يكن!
وا أسفاه على حياةٍ مليئةٍ بالعطاء لم يكتب عنها شيء!
أجل، إنه الفقيه الفرضي الشيخ محمد أنور عبد الفتاح نور المنصوري الشافعي الذي لم ألقه في حياتي إلا مرات معدودة، وقد تعرفت عليه عن طريق الصدفة من خلال كتابه النافع “هداية الرائض في علم الفرائض”، وكنت ذا اهتمام بعلم الفرائض وكتبه، حريصاً على معرفة علماء الفرائض المعاصرين، فوقع تحت يديّ كتابه، ثم تواصلت معه بعدها بفترة وجيزة، فحدد موعداً للقاء في مسجد “النصر” الشهير بمدينة “المنصورة” العامرة بالعلماء والمثقفين.
وبعد صلاة العصر جلسنا جلسة روحية عرفتُ من خلالها أنه كان مبعوثاً أزهرياً بدولة الجزائر الشقيقة، وأنه أول أزهري يدرس الدراسة الجامعية على النظام الحديث، هكذا أذكر، ثم جرى بيننا مناقشات فرضية إلى أن اطمأن في آخر تلك المجالس أن يجيزني بتدريس كتابه في أيّ زمان أردت وفي أي مكان نزلت، وأحمد ربي أنْ بقي نسب هذا الكتاب عندي، فالأسانيد -كما قيل- أنساب الكتب.
عرفتُ فيما بعد بوفاته من أحد مشايخ “وزارة الأوقاف المصرية” العلية، وأن الأستاذ ظلّ منشغلاً إلى آخر عمره بتدريس كتاب “كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار” للإمام الشريف تقي الدين الحصني الدمشقي الشافعي (ت829) في بيته بالمنصورة، وكان غالب رواد مجلسه من طلاب بلاد “جاوة” الوافدين للتعلم في “جامعة الأزهر الشريف” بالمنصورة.
إنّ التقصير في حق هذين الشيخين هو ما يحدوني إلى أن أبرز بكل الإجلال والتقدير ما استطعت من معلومات عن حياتهما المجهولة بالنسبة لي، والتي أجزم أنها حياة خصبة مليئة بالعطاء، وأنا أرجو ممن لهم طول معرفة بهما أن يذكروا ترجمة وافية لهما؛ لتكون زاداً باقياً للناشئة المتطلعة، وأثراً خالداً لمجهوداتٍ حافلة.