سلطنة عُمان تحتفل بالعيد الوطني الرابع والخمسين المجيد المجيد
Adsense
مقالات صحفية

حروف مبعثرة في غرفة العناية المركّزة (٥)

ملاك الرحمة وبياض الأكفان

سميحة الحوسنية

أشرق الصباح فأرسل خيوطه الذهبية تدقّ نوافذ تلك الغرفة العلوية لتوقظ ملاك الرحمة (لطيفة) من سُباتها العميق بعد أن قضت يومًا مجهدًا حافلًا بالعمل في المشفى، فانفرجت أهدابها على رؤية طفلتها (ورد) ذات السنة الأولى من عمرها، وهي تنظر إليها كملاك صغير تتابع حركات الفراشات عبر النافذة وتبتسم لتفعم قلب أمها بالفرح والحب، فسقطت دمعة حارقة ملتهبة بالصبابة ودفء اللحظات، فقد سلبت الجائحة الكثير من الأوقات الجميلة التي كانت تعيشها (لطيفة) مع طفلتها الصغيرة تداعب أناملها الناعمة وتغني لها أغاني الطفولة، فيبتهج قلبها لجمال ابتسامتها التي تمدها بالنشاط والحيوية لتباشر عملها مع الجيوش البيضاء في مواجهة الفيروس الذي غيّر نظام الحياة وما اعتاد عليه البشر.

كانت (لطيفة) ممرضة يُشار لها بالبَنان لإخلاصها وتضحياتها من أجل العمل، وكانت كلماتها الطيبة كأزاهير جميلة تنمو في حقول حياة المرضى، فتبعث بابتسامتها رسائل عطرية مفعمة بالأمل والتفاؤل للجميع.

ذهبت (لطيفة) إلى المشفى لتبدأ يومها، فحالات الإصابة ب(كورونا) تتفاقم وغرف العناية تكاد لا تتسع والممرات تختنق من الخطوات التي تجري وتسابق الريح لانقاذ الأرواح، فلا يوجد غير أسرّة الموت والحياة.

وفي غرفة العناية كانت ترقد الكثير من الأرواح، تنتظر مصيرها، إمّا العودة للحياة أو الرحيل الأبديّ.

كان يومًا صعبًا بالنسبة للممرضة (لطيفة) ولكل الطواقم الطبية التي تعمل ليل نهار، تقودها المسؤولية الإنسانية والوطنية في هذا العمل المشرّف لخدمة وطنهم الغالي.

عادت (لطيفة) فنظرت إلى طفلتها وهي تلعب مع جدتها في غرفة الجلوس ومن بعيدٍ أرسلت قبلات لصغيرتها وغادرت المكان وقد أكل التعب من جسدها لترتمي في أحضان سريرها ووسادتها التي بدأت تشتكي من كوابيسها في أحيان كثيرة حين يمرّ شريط يومياتها المثقلة بهموم المرضى وجهاد الأطباء في تلك المعركة التي يقودها مجهول الهوية يطلق بأسهمه على الأرواح، فيتسلل في أوردتهم فيصارعون الموت في تلك المعركة الشرسة.
كان نبض الساعات التى تمرّ يُحدث ضجيجاً حزيناً، فحالات الموت تجاوزت في ذلك اليوم المائة.
الكل يعاني ويعمل بذات الوقت،

وبعد أيام شعرت (لطيفة) بوخزات ألم في جسدها وإرهاق غيّر ملامحها، فغابت ابتسامتها وبدأت تذبل فقررت عزل نفسها فهي تشعر بأعراض المرض، فكانت تراقب صغيرتها عبر ثقب الباب تارةً ومن النافذة تارة أخرى، يعتصرها الألم، فقررت الذهاب إلى المشفى فثمة عملاق يقف على صدرها لا يتحرك مهما تناولت العقاقير الطبية.
خرجت من غرفتها وهي تنظر إلى تفاصيل منزلها وتسمع صرخات طفلتها تملأ المكان، فكم كانت تتمنى أن تحتضنها وتقبّلها في تلك اللحظات، فقلبها ينفطر ويتمزق.

رقدت (لطيفة) في المشفى ومع مرور الأيام تضاعفت حالتها فأُدخلت العناية لتتولاها عناية الرحمن واهتمام الأطباء، كانت ترى ملامح طفلتها في كل مكان تلوّح بيديها الصغيرتين وتدقّ بهما زجاج الغرفة فأغمضت عينيها، فما ذنب صغيرتها التي تنتظر والدتها كأي أمّ جاءت محمّلة بالألعاب وعلب الشكولاته لطفلتها والتي تقول عيناها:
لن تعود أمي لأن ثمّة من قتلها بعدم التزامه واستهتاره بالمرض، ماتت (ملاك الرحمة) ومن كانت تعتني بأهلكم وأحبتكم، وسُعدتم بلحظات خروجهم وشفائهم.
لم أحظَ كثيرًا بمعانقتها خوفـاً من أن تكون كورونا قد تسللت إلى يديها أو حقيبتها، فتفصلها حواجز الخوف والقلق.
ماتت أمي وقد تموت الكثير من الأمهات، إذا لم تفكروا بنا (فمن يعوضني أمي).

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights