سِرُّ نجاحي
د. رضيه بنت سليمان الحبسية
لطالما راودتني عاطفتي؛ لأخط بضع كلماتٍ في جنتي، كما لم تخلُ نفسي من ترددٍ؛ خشية إبخاص حقها، وهو أكثر ما منعني اتِّجاهها. فكم من همةٍ تحركني لبدء الحكاية، ومليون مرة أُرجىء المحاولة. إذ بارتداد صدى أصوات في أعماقي: أَأُسَطّر سيرتها قبل رحيلها؟ ، أم سأُغادر قبلها؟ !. وأخيرًا، تحررّ قلمي من سجن حيرتي، لإطلاق سراح سِرّ نجاحي.
إنها أمي، يعرِفُها الكثيرون ممن عاصر شبابها، أو وصل إليه كفاحها. في ظل سنين قاحلة، مرت على عُمان والمنطقة كلها. فكانت مثالًا للكفاف والعفاف. فلم يكن حظ جنتي، بأقسى من مثيلاتها ممن عاصرن ستينيات القرن العشرين، وما عانت منه الأُسر على اختلاف مكانتها الاجتماعية، والمالية. ولكنها-أي غاليتي- تزيد عليهن مسؤوليةً، حيث كانت كل الأسرة لأربعةِ أطفال، أكبرهم دون العاشرة، وأصغرهن دون السنتين، لتأخذ على عاتقها تربيتهم، وتأمين معيشتهم. وهي أشبه بأرملة لما يُقارب السبع سنين عِجاف، لا تملك من مقومات الحياة سوى مهنة الخياطة امتهنتها عنوةً؛ لتعمل ليلًا تحت ضوء القمر تارة، وبمقربة من ضوء القنديل تارة أخرى، حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر. والنوم يأبى أنْ ينام؛ لتواصل ليلها بنهارها؛ لتقتات وأبنائها ما يسدُّ رمقهم، ويقوي شوكتهم.
غاليتي،،، ومع إيثارها لعيالها على نفسها، الذين قدّر الزمان ليكونوا في عداد الأيتام، وهم ليسوا؛ لغياب أبٍ غَدَا أسيرًا لحربٍ داخليةٍ ضروس، حرصت على تنشئتهم قدر استطاعتها. وإنْ لم أكن بينهم، ولم أتقاسم تفاصيل الحياة معهم، فمجرد الخيال مع قصصهم، يكفي شعورًا بحسرتهم، وقلة حيلتهم. فهنيئا لك صبرك أُمي، وبورك سعيك بتنشئة أبناءٍ، هم اليوم رجالًا، يُحتذى بهم بِرا وامتنانًا، حفظهم الله في كنفك سنين سمان بإذنه تعالى.
ولأنّ عدالة السّماء مُحَققة، وبمعجزة هلّت على عُمان بضواحيها، وبشارة سارة غير متوقعة، لتعمّ الفرحة الوطن من شماله لجنوبه، شرقه وغربه، ببزوغ شمس نهضة ال 70، التي قادها قابوس بن سعيد- طيّب الله ثراه- لينقل بلاده من ظلام إلى نور، ومن تفرقة إلى تآلف، ومن قبائل متناحرة إلى تزاوج ومصاهرة، رحمة الله عليه وأسكنه فسيح جناته. ومع تلك المسرّات، تهلُ أسارير البهجة على عائلة أمي الصغيرة؛ لتُعيد إليها مجدها ومجد آبائها، بعودة ربُّ أسرتها؛ لينتشلها وصغارها من واقعٍ حالكٍ ، إلى تاريخٍ كاد يكون منسيًّا، فَخَرُّوا للرحمن سُجَدًا وبُكيًّا.
وكوننا ممن ترعرع في عهد قابوس الأغرّ، لم نجد ما وجد الأوائل من وَجْدٍ، فعشنا في رفاهٍ ونعيمٍ ورخاءٍ، في كنف والدٍ أشمّ، نفخر به ونُفاخر إلى يوم الدين. إلّا أنّ التئام شمل الأسرة لم يستمر طويلا، لحكمةٍ ربانيةٍ، وقدر محتوم، برحيل ربانها رحيلًا أبديًّا، ليتسلّم بِكْرُها زِمام أمورها، مُكمِلًا مسيرة أبٍ وقائدٍ مغوار، في عزةٍ وأنفةٍ وشموخٍ وإباءٍ، ليأخذ في عاتقه تربية أيتام قُصّر، وإنّا لنشهدُ أنه كفّى ووفّى، وللأمانةِ بلَّغ وأَدّى.
ومع ذلك فكم من مواقفٍ وزلاتٍ، لم نُدرك معها تقصيرنا، فسرسبت الأيام والشهور من بين أيدينا، ولم نحظَ بذروة الالتحام بوالدينا، أو الاستمتاع بمجالستهما. حيث شغلتنا مدارسنا، أعمالنا، وطموحاتنا، وهي في واقعها مبررات واهية، لا ترقى لتكون أعذارًا. وها هي السنون تدركنا، لنعايش تغيرات طبيعية في جانب من حياتك جنتي، فعجز الفعل عن الفعل فداءً لتغيرات السنين، أو إيفاءً بحقك الذي تستحقين.
فلك منا أمي كل الاعتذار، واعتذارنا لا يكفي، ولكل أمهاتنا ننكس رؤسنا خَجْلى، احتراما وإجلالًا، فهكذا هم الأبناء وهكذا هن الأمهات. فالأمهات لهن المأوى، وإنْ كبروا. والجنة تحت أقدامهن، وإن غفلوا.
وتتوالى مناسبة عيد الأم سنويا، وفي كل عام أُنشد التعبير مقالةً، إنما بداخلي عيدك أُمي مُخلدًا، لا لأنْ يكون يومًا عابرًا، فالفكرة بعقلي لحقك نكرانًا. فوجودك أمي أساس أعيادنا، وفرحة لقاءاتنا، يا من كنتِ، وما زلتِ سبب سعادتنا وسِرّ نجاحاتنا. حفظك الله منارةً، نستمد منها بركات ما تبقى من أيامنا، و نستشعر مع أنفاسك معنى وجودنا، ومع كل سقوطٍ أو كبوةٍ، رجاؤك ودعاؤك أمننا وأماننا، فلكل من فقد جنته عظّم الله أجره، ومن لا يزال في كنفها، هنيئا له اطمئنانه.
قال تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ۚ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ (سورة الأحقاف، الآية: 15).