في فلسفة الأخلاق
د . علي زين العابدين الحسيني
أصبحت الأخلاقُ مقذوفاً بها مِن أعلى شرفٍ إلى أسفلِ دركٍ!
أن تبقى متمسكاً بالحفاظ على ما اكتسبته من أخلاقٍ حسنة أو تعلمته من فضائل هو الكفاح الطويل، هو بقاء الأخلاق في ظلّ التغيرات المستمرة من الآخرين، هو إعلانٌ “أننا باقون”، وإخبارٌ “أننا مستمرون”، وإنّ الغلبة في الأخير لمن ناضل من أجل الحفاظ على الكيان الأخلاقي من أن يعبث به عابث.
لم يكن العلماءُ أسرى للنهم المعرفيّ فحسب، بل كان عندهم من الوقت متسعٌ لتهذيب النفوس ومعالجة الأخلاق، وخيرُ دليلٍ على ذلك تلك الموسوعات التراثية التي كتبت من أجل هذا الهدف؛ كإحياء علوم الدين للإمام أبي حامدٍ الغزاليّ، وإذا انتظم طالِبهم في مدارس العلم فإنه كان يجمع -ضرورة- بين أمرين: التحصيل العلميّ، والتهذيب السلوكي، لا يكاد ينفرد بأحدهما.
ولعظم هذه الأخلاق حتى في العرف العام، فقد أخبر أبو سفيان هرقلَ لما سأله عن حال النبي -صلى الله عليه وسلم- فأرشده أنه يأمرهم بالصلاة والصدق والعفاف والصلة، وفي ذكر الأمر بالأربعة تمام مكارم الأخلاق وحثٌ عليها؛ لأن الفضيلة إما قولية: وهي الصدق، أو فعلية متعلقة بالله تعالى: وهي الصلاة، أو متعلقة بنفسه: وهي العفة، أو متعلقة بغيره، وهي الصلة.
هذه الأخلاق الفاضلة يمكن اكتسابها بالتعلم وبذل الجهد في ترويض النفس عليها، حالها كحال المعرفة، فكما أن طالبها لا يستفيدها إلا من أستاذٍ كملت معرفته، فطالب الأخلاق أيضاً لا يحصلها إلا من أستاذٍ كملت أخلاقه، وتستدعي الحاجة الآن وجود مادة سلوكية شاملة في دور التعليم.
أجل نحن جميعاً في حاجة إلى مراجعة كتب الأخلاق، فالمرء عدو ما يجهله، فقد يكون الشخص حاسداً، وهو لا يعرف وقوعه في محذورٍ شرعيّ، فكيف سيتخلص منه وهو يجهل معناه وكيفية علاجه، ثم بعد اكتمال دراسة الأخلاق بحسنها وقبيحها ننتقل إلى ضرورة العمل بالسلوك الفاضل المكتسب المتجلي في الكتب بين السطور.
أشدد دوماً على ضرورة دراسة مادة “الأخلاق” و “تهذيب السلوك” حتى بين فئات المجتمع بما يناسب كل فئة، ونشر الدرس الأخلاقي بين الناس، فمتى قلت الأخلاق عند مجموع الناس فإنها تقل -طبعاً- عند الأفراد، والعكس بالعكس، ويمكن بكلّ سهولة أنْ يعيد أيّ شخصٍ تشكيل عقله؛ لاستقبال الأخلاق الحسنة، حتى من صعُب عليه الأمر في بدايته فبإمكانه التظاهر بها فترة من الزمن.
سيؤدي التظاهرُ بالأخلاق الفاضلة إلى اكتسابها، فإن لم تكن الأخلاق متأصلة في الأفعال، فلا أقلّ من التظاهر بها؛ لأنّ التظاهرَ بها سبيلٌ لالتزامها يوماً ما، وستتحول الأفعال الأخلاقية الظاهرة إلى طبائع لا يمكن الاستغناء عنها.
وفي طريق سيرك في الحياة تحتاج كثيراً من القوى لمقاومة صعوباتها، وأعظمها قوة الإيمان بالله، ثم قوة الصبر على المتاعب، وقوة التحمل للشيء السيء، ومنها قوة تحمل الأخلاق الدنيئة خصوصاً من أناسٍ لم تقدم لهم إلا كلّ خيرٍ.
ليت الأخلاق السيئة تُكتب بقلم رصاص؛ لنمسح ما لا ترضاه أنفسنا.
إنّ السلوكَ المشينَ مرضٌ من الأمراض الفاتِكَة بصاحبه ومجتمعه، ومما هو مجمعٌ عليه أنّ لكلّ داءٍ دواءً، ودواءُ الأخلاق السيئة هو سلوك المتصف بها سبيلاً واحداً؛ بأنْ ينفق وقته ويبذل جهده في دراسة هذه الأخلاق المذمومة، ومعرفة كيفية علاجها.