2024
Adsense
مقالات صحفية

أمي وربيعُها

مياء الصوافية

عندما يقبض الليل بصدر غروب النهار المتواري فإنه يطفىء الأفق الحالم ويجرده من أثواب الفرح السندسية، ولكنه أيضاً يلفظ روحاً حبيبة بعدما  تشبثت به بأن تحيا شيئاً من زمنه، وكانت من قبل ترجو من النهار المتهالك الذي لم يبق منه إلا أثر بأن يبقى ويبقيها معه، وكان الكل يكفكف ثنايا أثر النهار المودع يحاول أن يحيي ملامحه بامتنان ودعاء وبعيون مترقبة، ولكن غادرت هذه الروح الحبيبة مع النهار المضرج باصفرار العليل والتي كانت كالنهار في إشراقها فتوارت معه، وتوارى خلفها جسدها الطاهر تحت أديم الأرض، وأعقبها النحيب الغائر الذي لا تترجم أصداءه. رحلت هذه الروح الطيبة مع الراحلين لم تسعفها الرجاءات ولا نهار ولا ليل، رحلت هذه الروح الحبيبة في عيدها في يوم ربيعها في أذار حين يهدى الورد وتستيقظ الأزهار من غفوتها، رحلت أجل رحلت وغاب الرضا الصادق وتلاشت معه اللهفة الحنونة والملجأ الآمن لانكسارات النفس، وانطفأت حسنات البر التي تثقل الميزان بعدما أغلق باباً من أبواب الخير المتنامي.
فما بالك يا ربيع لم تحتضن أحزاننا؟
أم أنك لم تسمع الآه بأذنيك الحالمة؟
أم أنه الحزن الذي عاش في مساحات نفوسنا الممتدة وقيد أجسادنا في شعاعك الهازج دون أن تراه لأن الحزن أوثق قبضته عليه؟
هل تناسيت يا ربيع أمي ألا تذكر ترنمها عندما غزلت من أزهارك عقود الياسمين، وعندما هزجت بأغاريدك هدهدات ناعمة والقمر كان يومها يرقبها خوفاً عليها من دجى مريع.
رحلت هذه الروح الحبيبة مع أن الدنيا تعيش ربيعها وتتهادى الأزاهير في غلائلها وجداول الماء تنثر رشرشات باردة من نسيم عليل في صباح يباشر بالظهور ويقبل الوجنات ويتوارى عن أسهم الشمس مختفياً خلف دندنات الأوراق، و أنفاس الفل تهزج راقصة في دوائر لولبية بلا توقف يمتلىء منها الصدر انتشاء والعصافير المغردة في أيكها تسمع الدنيا ألحان الأماني اللامنتهية التي تحطم قيود الذكرى الكاسفة وتضرب بأثقالها على قمم الجبال الرانية للأفق الكبير…
رحلت زهرتي لكن عطرها ما زلت أتذكره من دفء يغطيني فجأة في ظلمة الليل، ومن عين وجلى تخاف أن أنزلق في مهاو ومن يد تنتشلني من ظلمات نفس مدثرة بنقاب كليل لتعيدها إلى راحة التقوى.
مازلت أذكر يديها المرفوعة تناجي الله(تعالى) بأن يحيطني بعين الرضا.
دفء الحنان تلاشى معها كما تتلاشى غدران المياه بعد ليلة مطيرة، فما عدنا يا ربيع نهمس بأحزاننا بعدها لأحد، فها هي هذه الأحزان تغوص في أعماقنا فلا جبراً ينتشلها ولا تسلية تغيرها فتتوارى وحيدة مكسورة فتسكن أوردة قلوبنا تتشرب من غزير الدموع فتنمو في قلوبنا نمو الأشجار المتسلقة على جدران متشققة، فنضارة دفء أمي  تلاشت كالأيام التي لن تعود.
إنها أمي الغائبة الحاضرة ما زالت في كل منظر ومحضر في زوايا ذاكرة الطفولة الناعمة الخضرة كالأشجار الوارفة الباعثة للحياة فدفء ذكرياتها تحتضن نفوسنا المنكسرة كاحتضان الأرض العطشى لزخات المطر الملحة حتى تعيدها للحياة، وفي ليالي الشتاء الباردة وموقد حنانها الذي تحتشد حوله قلوبنا اللهفى لضمة حضنها ونظرة رضاها وندى يديها الذي  تنشده معنا قوافل الأضياف والتي ترحب بنا بسماتها الكريمة وقلبها الرحب، وفي وداد جوارها النقي الرضي الذي تلتحم معه روابط الأخوة، ولسانها الذي كان كالشهد وبه تسعد القلوب فتذعن مع كلماته امتناناً ووفاء و لا تملك إلا الانبهار بمروءتها. (رحمك الله يا أمي).

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights