2024
Adsense
مقالات صحفية

توافق العقول

د. طالب بن خليفة الهطالي

الدكتور: طالب بن خليفه الهطالي
‏Talib.oman@hotmail.com

كيف يمكن التعامل مع الطرف الآخر إذا كان من العقليات السلبية أو المتحجرة أو الجاهلة؟
لقد خلق الله البشر في أحسن خلقة وصورهم فأحسن صورهم وجعلهم في أفضل هيئة، وصورهم فأحسن صورهم قال تعالى: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾[القرآن. التغابن: 3] وإن للعقول موازين ثابتة والبشر متشابهون في الشكل والهيئة ولكنهم مختلفين ومتفاوتين في أشياء كثيرة ومتعددة، كلغة ونوع ومستوى التواصل بينهم، ولا يمكن أن ننكر تفاوت القدرات البشرية الجسدية من حيث الحجم والحركة، فإن العقول أيضًا تتباين من حيث المستويات العلمية والثقافات وطريقة التفكير من شخص لآخر، وهذا يعتمد حسب النشأة الاجتماعية والوراثة، فهذا يسوقنا إلى الجزم بتفاوت العقول من شخص لآخر بل قد يتفاوت عقل الشخص الواحد فتجده أحيانًا متزن ورصين في كلامه وأسلوبه وتجده أحيانًا أخرى متسرع أو ما شابه، وفُسّرت كلمة العقل بمعانٍ متعددة، فقد ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال في ابن عباس رضي الله عنهما: “ذاكم الكهول، إنّ له لسانًا سؤولًا، وقلبًا عقولًا” (1)، وقال الشاطبي رحمه الله:” فالإنسان وإن زعم في أمر أنه أدركه، وقتله علماً – لا يأتي عليه الزمان إلاّ وقد عقل فيه مالم يكن عقِل، وأدرك من علمه ما لم يكن أدرك قبل ذلك، كل أحد يشاهد ذلك من نفسه عياناً، ولا يختص ذلك عنده بمعلوم دون معلوم….. إنتهى”. إن قوة الإدراك عند البشر تتفاوت فمنها ما يكون غريزياً ومنها ما يكون مكتسباً، فالحق سبحانه وتعالى فاوت في العقول بين الخلق حيث عُرّف العقل بأنه: الإمساك والامتناع عن دفع صاحبه من الوقوع في الضرر وهو عنصر رئيس لإثبات أهليّة صاحبه، فمن خلاله يستطيع إدراك الأمور والتمييز بين الأشياء وقدرته على اتخاذ القرار الصائب، وهو ما ميّزنا الله تعالى به عن سائر المخلوقات قاطبة، فقد صنّف أهل الاختصاص العقل إلى عدة أنواع:
– العقل المتنور أو المتحرر: قلة من البشر من يتميزون بهذا النوع من العقل ولا يمكن ملاحظتهم مالم يُظهروا أفكارهم للعامة، فهم يقبلون النقاش لا يتعصبون لأفكارهم أو لفكرة معينة ويمكنهم التراجع حال بيان خطأ فكرتهم، ويدافعون عن أفكارهم بأسلوب علمي وبطريقة مقبولة ومستساغة لدى الطرف الآخر، وهؤلاء هم العلماء والفلاسفة وثلة من المثقفين.
– العقل المعرفي: غالبية أصحاب هذا العقل من المتعلمين والمثقفين والباحثين، وإذا ما بحثنا أكثر سنجد أن غالبية النخب يصنّفون ضمن هذا التصنيف.
– العقل الجاهل: وصاحب هذا العقل يظن أنّه بلغ الكمال وليس له حاجة لمزيد من المعلومات، كما يظن أنه قادرًا على دخول المناقشات والحوارات ظنّاً منه جهلًا وتعجرفاً أنّه أفضل من البقية. أعجبني قول أفلاطون: الكرامة مجد يأتي نتيجة عقل مستقيم وجاد.
– العقل الرجعي: وهذا النوع من العقل لا يؤمن بالعلم الحديث أو العلم البشري، فهو يؤمن بالأوهام والخزعبلات والخرفات التي تلقفها من العقول المشابهه التي تؤثر على الضعفاء متجاهلًا الفئة المتعلمة المثقفة، وتجده ضد التطور الذي لا يتناسب مع معتقداته وأوهامه.
-العقل المزدوج أو المصلحي: يعدّ من العقول الخطرة فهو يظهر للعامة -حتى لو كان غير مقتنع- ما يبطن، فهو إنسان محاور وينادي بالحرية والديموقراطية، ولكنه في حقيقة الأمر عكس ذلك فهو غير مقتنع بما يقول ويتضح ذلك جليّاً من واقع تعامله مع الطرف الآخر، ويتميز صاحبه باللامبالاة في التفكير فمصلحته مقدمة على الجميع.
-العقل المتعصب: إن صاحب هذا العقل صعب المراس، ضنّاً منه أنه دائماً على صواب وقلّما يعترف بآراء الآخرين وإن ثبتت صحّتها، وغالبًا ما يستخدم رفع صوته أثناء النقاش فقط ليشكّل ضغطاً على الطرف الآخر لإثبات رأية، وهذا النوع يعتبر النقاش معه هدراً للوقت لا غير.
-العقل الجبان: يمتلك صاحب هذا العقل قدراً لا بأس به من المعلومات المفيدة والقيمة لكنه غالبًا ما يتجنب المشاركة، وتجده يسخّر طاقته في المواضيع الصغيرة والبسيطة التي لا تحتاج جهدًا. كل ذلك كي لا يُلحق الأذى بنفسه أو يتحمل المسؤولية وفي حقيقته أنه غير راض عن ذلك.
-العقل المتقلب: يكون صاحب هذا العقل دائم القلق وغير منظّم في أفكاره، وتجده متعدد المراجع، لذلك تجده غير ثابت على رأي واحد، وهذا النوع لا يمكن الوثوق فيه.
-العقل العاطفي: ويكون في الغالب من العامة الذين يسهل السيطرة عليهم وتسخيرهم فهم من البسطاء محدودي الذكاء والتفكير.
لقد ميّز الله سبحانه وتعالى البشر عن سائر المخلوقات بالعقل، وهي هبة عظيمة يجب احترامها والمحافظة عليها، فبالعقل ترتقي الأمم وتهوى أخرى فكما قال المتنبي:

إِذا رأيتَ الهوى في أمةٍ حكماً: فاحكمْ هنالكَ أن العقلَ قد ذهبا.

ولعظم منزلة العقل اهتمت به الشعوب واعتبرته من الكنوز البشرية التي لا تقدّر بثمن، وسَعت جاهدة للحفاظ على أصحاب هذه العقول وتقديرها واحترامها وإنزالها المنزلة التي تليق بها، ولم تدّخر جهداً للمحافظة عليها والدفاع عنها، كذلك لم تبخل عليها وتنميتها وتطويرها، لذلك من يحق لأصحاب هذه العقول احترامهم وانزالهم المقام المناسب وعدم تجاهلهم والاستخفاف بهم أو تحجيمهم، ومنحهم المساحة الكافية للتفكير وتهيئة البيئة الخصبة السليمة لهم للتطوير والإبداع. قال ألبير كامو: يقاس العقل بالنقاش، وتقاس المحبة بالمواقف.
هذا الموضوع يحتاج تفصيل أكثر، وأسأل الله أن يوفقني لبحثه تفصيلًا في قادم الأيام.

1. رواه الحاكم في مستدركه 3/539،وقال عنه الذهبي منقطع.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights