تسلية الكتّاب
د . علي زين العابدين الحسيني
أبدعَ نجيب محفوظ في بيان تعامل بعض الناس تجاه المشتغلين بالكتابة حين سطّر في بعض كتبه حال الأشخاص الذين يقومون بأشياء خاطئة في حقهم أنهم يظنون أنّ كتابتهم بعد ذلك تخصهم دون غيرهم، وأنها تُسلط الضوء عليهم.
هذه النظرة مبنيةٌ على أنّ الشخص الذي أخطأ في حقك يعتقد دائماً أنّ كتابتك مُوجهةٌ له، حتى لو كلفتَ نفسك فحلفتَ له بين المشعرين وزمزم فلن يُصدقك، وهنا أنصحك ألا تنشغل بالآخرين وكلامهم، واستمرّ في كتابتك كما شئتَ، وكيفما أردتَ، فالتفاتك لكلامهم هي أولى خطوات القضاء على إبداعاتك.
لعلّ من أهم أسباب الإبداع الكتابي هي الكتابة بتلقائيةٍ وعفويةٍ دون التردد في الشيء المكتوب، وأعني بذلك محاولة اختيار ألفاظٍ معينةٍ بعيدة عن أيّ تفسير أو احتمال لفهمها على وجه غير المعنى المراد، وعلى الجانب الآخر فإنّ من أكثر وسائل قتل الإبداع تعاملك بحذرٍ في كلّ لفظٍة تكتبها.
حينما نكتب بهذا الاعتبار فإننا نشعر بأنّنا مقيدون بألفاظٍ ومواضيعَ معينة، فلا نحاول أن نخرج عن المعهود، كلّ هذا محاولة منا لإرضاء الآخرين، أو محافظة على شعور أناس قد يفهمون -لسوء ظنهم- معاني أخرى بعيدة.
إنّ أهم ما يميز الأستاذ زكي مبارك – وأنا من المغرمين بكتابته العاشقين لأسلوبه- صدقه في كتابته، فهو يكتب كما يحلو له، نعم قد جرّت كتاباته عليه كثيراً من الويلات، أقلها أنّه لم يأخذ حظاً وافراً من الدنيا؛ كأبناء زمانه ممن كانوا يتحفظون في كتاباتهم، فتارة يخادعون، وتارة يتملقون، وتارة يسكتون، وتارة يتكلمون بما فيه مصلحتهم.
عاش زكي مبارك فقيراً مع أنّه كان من أذكياء جيله، فحصّل من العلوم والشهادات ما لم يكن عند غيره؛ حتى لُقّب (بالدكاترة) لنيله أكثر من شهادة دكتوراه، وكان سبب ذلك صراحته في خطابه، وصرامته في كتابته، لكن بقي اسمه، وعاشت كتبه، واستمرت أفكاره، وعدّ من أفضل الكتاب المعاصرين، بل في صدارة المتصدرين.
أجل، قد يكون زكي مبارك خسر الحياة الهادئة لكنّه غنم بعد موته ما لم يستطعه غيره، ويكفي في ذلك شهادة الأستاذ علي الطنطاوي، إذ عدّه في “ذكرياته” من كبار كتاب العصر الحديث، وكان دائماً يوصي طلابه في قاعة المحاضرات بكتبه ومقالاته، وأنتَ من خلال كتبه ستشعر منها بالعزة والأنفة، وتتأكد أنّه رجل ذو رأي، فليس من أناسٍ ليس لهم صوت إلّا كرجع الصدى.
ولشيخي المؤرخ الراوية محمد رجب البيومي كلمةٌ عزيزة في تقديمه لكتابه “مشاهد من باريس”؛ حيث قال عنه: “وزكي مبارك مجاهدٌ باسلٌ من المجاهدين القلال الذين شقوا طريقهم في الحياة بالقوة، وأخذوا نصيبهم من المعرفة بالكد، وأحلوا أنفسهم محلهم اللائق بالصراع، وهو أحد الأدباء الذين لم يقم مجدهم الأدبي على الظروف والحظ”.
والخلاصة أن النظر في كتابتك يجب ألا يكون مبنياً على آراء الناس، فهذه النظرة سبب من الأسباب القوية لضعف التميز وتراجع الأداء، ولو تملك على قلبك هذا الأمر لتأخرتَ كثيراً؛ لأنه مهما حاولتَ إرضاء الجانب الآخر فلن تستطيع نيلَ القبول من الجميع.
بعد مدةٍ ليست بالطويلةٍ ستكتشف أنّ ما تنفرد به من ميزات -ومنها الكتابة- هو سبب غيظ وحقد الآخرين عليك، وربما كانت من العوامل الرئيسة لتكالب الحسّاد عليك من كلّ جانبٍ، في حين لو كنت إنساناً عادياً لما التفتوا إليك، ودائماً ما يُورث التميزُ الحقدَ مما يغري اللئام بالكذب عليك، وقلب الحقيقة.
يزيدُ الأمر حيرة في فهم نفسية الآخر حينما تتأكد أنّك لو تحمل من النقائص والعيوب ما تحمل فلن تكون السهام الصبيانية موجهة إليك، بل ربما تكون مقرباً، تحظى بالحفاوة، هكذا قضتِ العادة، ولا مفرّ منها، وانظر فيمن حولك ستجد الأمرَ كما قلتُ.
وفي محاولةٍ جادةٍ لتفسير ذلك وجدتُ أنّ الآخرين يُغيظهم مِن أعمالك ما يجعلهم صِغاراً أمام غيرهم، أو حتى صِغاراً أمام أنفسهم التي يحملون بين جنبيهم، فالناس يَسخطون على مَن يُصغّرهم أمام الآخرين، أو على الأقل يُبعد الأنظار عنهم، ويخطف الأضواء منهم.
ليست هذه التسلية خاصة بالكتّاب، فهي تسليةٌ لكلّ ناجح يُعاني من أصحاب بيئته، وقد وردت لي رسائل كثيرة عبر الخاص تحمل هذه الشكوى -في أيامٍ متباعدة- مستفسرة عن طرق حلها مع أنّي أجزم أنّ علاجها أنْ تمتلك ما أطلقتُ عليه سابقاً “سرّ التميز”، وهو أن تكون فيك القوى الداخلية التي تجعلك مصراً على تحقيق النجاح، وتمنعك من التنازل عن أهدافك مهما كنتَ عليه من ظروفٍ.
إنْ كان للنجاح آفةٌ -يا صاحبي- فليس إلّا استجلاب الحقد عليك ممن حولك، فحاول ألا تبدي الإنجاز وتظهر النجاح إلا لمن صدقكَ في محبته، فالحسّاد يترصدون بكَ من كلّ جانبٍ.
وبعد، فكُن واثقاً أنّه لا يُلام مَن كتبَ فأوجعَ، ولا يُعابُ مَن صدق وإن أقْذَعَ.