لماذا نعيش حالة الإغلاق؟
سعد المحيجري
أُجزم بأن الجميع مر بهذه الحالة في حياته من قريب أو من بعيد، حين يُخاطبك شخص ما أو يُناديك وأنت تفكّر في أمر ما، وقد شغل تفكيرك ذاك الأمر فلا تسمع أبدًا من يُخاطبك، حتى وإن كنت تنظر إليه بعينيك. يقول علماء النفس إن هذه الحالة تُسمى حالة الإغلاق، وهي قيام مركز الدماغ بإغلاق الإشارات العصبية السمعية من الوصول إلى مركز الدماغ، فلا تكون هناك أي استجابة.
قررتُ في أحد الأيام في لحظة انتظار أحدهم بالسوق أن أتركَ هاتفي ولا أنشغل به، وأن أعيش الحالة السابقة التي كُنّا عليها قبل أن تغزو الهواتف المحمولة جيوبنا وأيدينا، فرأيت مشهدًا واحدًا يتكرر كل دقيقة إن لم أكن أُبالغ، فقط الاختلاف في الأشخاص أبطال كل مشهد، امرأة وزوجها يتنقلان بين المحلات وكل واحد منهما عينه في هاتفه، ثلاث نساء خرجن للتسوّق معًا، وكل واحدة منهن تناظر شاشة جوّالها، امرأة وابنتها تمسكان بأيدي بعضهما، والأيدي الأخرى مشغولة بالهاتف، نزل أربعة شبّان من سيارة واحدة، وفور نزولهم أخرج كل منهم هاتفه مباشرة وبدأ يداعب شاشة جوّاله، أنا على يقين أن المشاهد السابقة أصبحت طبيعية إلى الحد الذي لا نلحظه أنها باتت جزءًا من حياتنا؛ ببساطة لأننا جميعنا نعيشها ونمر بها.
تلك المشاهد وشبيهتها ربما لا تكون خطيرة بالدرجة التي نتصورها، ولكن ما يقبع خلفها من آثار لا يُمكن لأحد أن ينكرها، فحين أرى سائقًا يعبث بهاتفه وهو في الطريق، فهنا الخطر الحقيقي عليه وعلى مستخدمي الطريق الآخرين، وذاك الابن أو البنت الذي يتحدّث إليه والداه وعيناه تحتضنان شاشة جوّاله، فأي أثر نفسي يتركه لديهما، وعلى العكس من هذه الصورة ذاك الأب الذي يأتي إليه طفله ويناديه رغبة في إجابة سؤال أو حضن أو قبلة ولا يُعيره أي اهتمام، أو إن صح التعبير فهو في حالة إغلاق ولا يسمع أي كلمة من طفله، فأي تأثير سيخلفه في نفسيّة طفله، وهو الذي يُريد منه فقط أن ينظر إليه بعينه، أو تلك الزوجة أو الزوج الذي لا يكترث بما يقوله الطرف الآخر وعينه تسمّرت في الجوّال يبحث عن آخر موضات التسوّق فقط من أجل المباهاة والاستعراض، وحين يكون تأثير تلك المشاهد على نفسية المرء أيضًا لا يمكن إغفالها، فحين ترى شخصًا يُمسك بهاتفه وهو يتناول الطعام، فهو هنا لا يستشعر القيمة العظمى والنعمة الكبرى التي وهبه الله إياها، فالهاتف جعله يعيش حالة الإغلاق، ولم يُحس بقيمة النعمة والطعام، فتلك النعمة تتطلب تقديرًا وشكرًا لواهبها، وإحساسًا عظيمًا بوجودها، وقِس على ذلك كل المشاهد التي رأيناها سابقًا والتي لم نذكرها وقد مررتَ بها في حياتك وستمر بها، فنحن لا نعيش جمال الحياة، وبتنا لا نستمتع بالمناظر الطبيعية الرائعة في خروجنا ودخولنا، فجلُّ رحلاتنا للتصوير وملء هواتفنا ومواقع التواصل بالصور لا للتفكر والترفيه والسمر والتسامر، وابتعدنا عن الهدف الأساسي الذي ذكره الله في محكم كتابه: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ)، وبتنا لا نشعر بالإنسان الذي يحتاج مواساة أو كلمة طيبة من خلال النظر في عينه واستشعار حاجته؛ لأننا ببساطة نعيش حالة الإغلاق التي تفصلنا عن واقعنا بسبب الهواتف المحمولة وبرامج التواصل الاجتماعي.
لا شك أخي القارئ أنك لا تشعر بهذه الحالة الانفصالية عن الواقع ما دمت غارقًا فيها وأنت تمارسها، ولكنك حتمًا ستدركها حين تُمارَس ضدك، فحينها ستمتعضُ من كم المشاعر السلبية المنبعثة منك تجاه من يُمارس حالة الإغلاق الشعوري ضدك، فلا أسوأ من الشعور بالإهمال وعدم التقدير ممن يقف أمامي.
علينا أن نعود إلى واقعنا بتفاصيله من أفراح وأتراح، وأن نجعل من لحظاتنا حقيقية ممتعة بكل ما فيها من جمال وحب وعاطفة واحتواء، لا أن نبحث عن ذواتنا وتقديرها وقيمتها في العالم الافتراضي،الذي لا ندرك عنه شيئا وعمن خلفه، علينا أن نبتعد في لحظات معينة -إجبارية أحيانا واختيارية أحيانا أخرى- عن تلك الأجهزة التي أبعدتنا دون أن نشعر عمن يجب أن نحتويهم ممن حولنا.