مطرح الحداثة والتاريخ
الكاتب : حمد بن سعود الرمضاني أبو سلطان
مطرح قصيدة تلقى ، أم حكاية تروى ، من لم يزرها يبقى قلبه معلقاً بشغف تحقيق حلمه بإختطاف نظرة عليها ، لتهدئة نيران لهيب شوقه ، لأن دندنة طرب سماع حكاياتها لن يهدأ ولن يستكين إلا بتحقيق هذا الحلم. وها أنا اليوم أحمل نفسي وتدفعني قدماي، بدون سابق تخطيط، بالتحرك إلى هذه المدينة العريقة الموغلة في القدم، أدخلها وشوارعها الداخلية لم تتبدل، والعديد من مبانيها لا تزال صامدة عبر حقب من الأجيال، الناس هنا يتميزون بالبساطة والألفة في جلساتهم عند بوابة برزة مطرح المعروفة لدى الجميع، يحتسون الشاي والقهوة وشراب الزنجبيل، يبتاعون المكسرات، يتبادلون أطراف الحديث مع تناغم طرق أقدام المارة، وأصوات مناداة الباعة،
اخترقت قدماي مسار أزقة السوق، حيث تدنت الحركة التجارية في الآونة الأخيرة بسبب جائحة كورونا، ولكن يظل المكان محتفظاً لزواره بذكريات التاريخ القديم الذي تزخر به هذه المدينة العريقة الصامدة وبين حاضر مشرق مستنير، تكافح لتبقى ويبقى روادها وزوارها ومحبيها على اتصال دائم يرتشفون من معين جمال شاطئها الممتد على خليج عمان بصفاء زرقته الصافية، والسفن الخشبية لا تزال راسية تزين المكان وتحكي قصص سفر الأجداد، سلسلة جبالها تشكل درة طوقها الشامخ، تحمي القاطنين بدفئها من صد الأطماع الغابرة، وويلات الحروب الكاسرة.
صنوف بيوتها القديمة المنتصبة على جانبي أزقتها المتعرجة الضيقة، تمتزج هذه الأزقة لتحملك إلى أسواق البخور، المنبعث أريج شذاها لتعطر المارة، وإذا وصلت بك قدماك إلى أماكن بيع البهارات فلا بد أن يصيبك نصيب من روائع رائحتها التي تملأ المكان، تحملك ذكرياتها بمراكب البحارة العمانيين الذين جابوا البحر شرقاً وغرباً بين موانيء أفريقيا والهند والصين، وإذا الحديث مع كبار السن الذين لا تزال صحائف ذكرياتهم تسترسل الماضي بأحداثه ووقائعه، حكايات تقلك مع قواقل الإبل المحملة بالخيرات، الآتية من المناطق والأرياف المجاورة، وموائد سوقها الزاخر بأصناف الأكلات من تمر وفواكه وخضار، وأنواعاً من الأكلات الشعبية التقليدية المحلية المحببة للجميع، الباعة كانوا يفترشون الأرض، وقد أظلتهم سحائب الرحمات ونزلت عليهم مزن البركات، وما أن تتهيأ الشمس بالمغيب، إلا وقد بيعت البضاعة، واستعد الناس للأنسة والوداعة، يهرعون لبيوتهم وأخذوا مؤنتهم. هكذا كانت مطرح قديماً، وستبقى معيناً لا ينضب لكل زائر لها، وشاهداً لا يأفل ضياؤه، تسطر للأجيال ملامح تاريخها وحكايات تراثها وسكانها الذين جاؤوا من كل حدب وصوب من مناطق عماننا الحبيبه، ليستقروا فيها، ويلتحفوا تحت ردائها، وينصهروا جميعاً في بيئتها، من تجار، ورحالة وأدباء. وصيادين وغيرهم ممن استقروا فيها، فكانت لهم مظلة حانية تحوى كل مستغيث للعيش في كنف حظنها، ومحتمياً بسوار جبالها وارتفاع قامات قلاعها، ناشرة الأمن والأمان، والعيش في بحبوحتها بسلام.