2024
Adsense
مقالات صحفية

مؤرخا الأندلس محمد عنان وعبد الرحمن الحجي

د . علي زين العابدين الحسيني

“الأندلس” هي تلك الحقبة الزمنية المشرقة من تاريخ المسلمين التي انضمت إلى خريطة العالم الإسلامي في القرن الأول الهجري، وباتت أرضاً من أراضيه، وجزءاً لا يتجزأ من حضارته، وزاداً للحضارة الغربية فيما بعدُ، فهاجرت إليها القبائل العربية من شبه الجزيرة، وتَعَرَّب أهلها، وتواصل الوجود الإسلامي والدور الحضاري فيها طيلة ثمانية قرون.
اِرتبطَ بتاريخ الأندلس وحضارتها الإسلامية اسمان في العصر الحديث، بحيث إذا أطلقت الأندلس انصرف الذهن إليهما، واسمهما العِلْميّان وخدمتهما لتاريخ الأندلس يمثلان حقبة من حقب التجديد التاريخي، ويغنيان عن كلّ الألقاب؛ لأننا مهما اجتهدنا في كتابةِ ألقابٍ علميةٍ تليق بهما فستظلّ غير كافية بالنسبة للجهود الحافلةِ التي امتازت حياة كلّ شخصٍ منهما.
وأولّ هذه الأسماء التي ارتبطت بتاريخ الأندلس وعلومها وحضارتها المؤرخ المصريّ المحامي محمد بن عبد الله العنانيّ العمريّ (ت1406) المنتسب إلى السادة العنانية بمصر، وهي أسرةٌ قرشيةٌ كريمةٌ من ذرية سيدنا عمر بن الخطاب كما هو مشهورٌ ومُثبَت في عمود نسبهم، وترجم لأجداده كثيرٌ من المؤرخين، وقد ولد في قرية “بشلا” الواقعة بمديرية الدقهلية آنذاك سنة 1897م، وبين أسرتنا وأسرته قرابةُ نسبٍ ومصاهرةٍ، وللأسرة العنانية انتشارٌ واسع في مصر في مختلف الميادين.
حفظ كعادة أهل الريف القرآن الكريم كاملاً في كتّاب القرية، ثمّ تلقى دروسه وتعليمه في القاهرة، وواصل دراسته حتى تخرج من مدرسة الحقوق السلطانية سنة 1918م، واشتغل بعدها بالمحاماة والصحافة، وتعلمّ منذ صغره عدة لغات كالإنجليزية والفرنسية والألمانية إلى درجة الإتقان، ثم دَرَس اللغة الإسبانية فيما بعد حينما شرع في كتابة بحوثه الأندلسية.
تعلق بالأندلس وتاريخها، وكانت أول زياراته لها سنة 1936م، ولم تنقطع رحلاته إليها، بل استمرت حتى بلغت ست عشرة رحلة، متجولاً في مكتبات مدريد وغرناطة، ومتنقلاً في المدن التي شهدت مسرح الأحداث؛ للوقوف على المعالم التاريخية بنفسه، وقد أسفرت هذه الرحلات مَع ما جمع فيها من وثائق ومخطوطات ومعلومات عن موسوعته الضخمة في تاريخ الأندلس “دولة الإسلام في الأندلس”.
تقع موسوعته الأندلسية في ثمانية أجزاء في أربعة آلاف صفحة، بدأها بالحديث عن بداية الفتح الإسلامي وحتى السقوط، وطبعت طبعات كثيرة، منها طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب ضمن سلسلة مكتبة الأسرة المصرية سنة 2001م، ولا تزال الموسوعة مرجعاً أساسياً للتاريخ الأندلسي شرقاً وغرباً.
وثانيهما العلامة الحُجّة المؤرخ عبد الرحمن بن علي الحَجِّي المهداوي الدرعمي، ولد في قرية المقدادية إحدى مدن محافظة ديالي بالعراق سنة 1935م، وبها درَس المراحل الأساسية، ثم حصل على الليسانس من كلية دار العلوم بالقاهرة، وواصل دراسته العليا في جامعاتٍ متعددة، حتى نال شهادة (الدكتوراه) سنة 1966م في جامعة كامبريدج في بريطانيا، وكان موضوع رسالته في “العلاقات الدبلوماسية الأندلسية مع أوروبا الغربية”.
عاش الحجي للأندلس، وتخصص في تاريخها، وعُرف بمعارفه المتعددة في حقل الدراسات التاريخية الأندلسية، فحقق وترجم وألف كثيراً من المراجع الهامة التي أصبحت اعتماد الباحثين في تاريخ الأندلس، ومن أشهرها كتابه “التاريخ الأندلسي من الفتح الإسلامي حتى سقوط غَرناطة” الذي وُصف من المتخصصين بأنّه أفضل كتاب مختصر جامعٍ عن تاريخ الأندلس، وقد صدرت طبعته الثانية عن دار القلم بدمشق سنة 1981م أي قبل 44 سنة.
ومن كتبه في تاريخ الأندلس أيضاً: كتاب ” هجرة علماء الأندلس لدى سقوط غرناطة (ظروفها وآثارها)”، وكتاب “تاريخ الموسيقى الأندلسية: أصولها، تطورها، أثرها على الموسيقى الأوربية”، وكتاب “العَلاقات الدبلوماسية بين الأندلس وبيزنطة (القسطنطينية)”، ومن كتبه المهمة في الباب: “الحضارة الإسلاميـة في الأندلـس: أسسها، ميادينها، تأثيرها على الحضارة الأوربية”، وهو القائل كلمة ذاع صيتها: “لولاَ الإسلاَم لما قامَت الأندلُس، ولولاَ الأندَلُس لما قامَت الحضَارة الغربيَّة الحَديثة”.
قضى عبد الرحمن الحجي حياته في تاريخ الأندلس، وآثر في أخريات حياته أن يعيش متقللاً من الدنيا في مهجره “مدريد” إلى جوار مشاهد الحضارة الإسلامية، واختار لنفسه عزلة علمية ما بين تأليف الكتب وزيارة الآثار الأندلسية؛ لاسترجاع عبق الذكريات ومَشَاهد القوم، إدراكاً منه أنّ هذه البلاد يجب أن يتوجه لها اهتمام الباحثين.
وقد توفي بسبب أزمةٍ قلبيةٍ يوم الإثنين الماضي الخامس من شهر جمادى الآخرة سنة 1442، يوافقه 18 من يناير سنة 2021م عن عمر يناهز ستة وثمانين عاماً، ودفن في المقبرة الإسلامية بمدريد، وبموته انهدم ركنٌ أصيلٌ من أركان التاريخ الأندلسي، فرحمه الله رحمة واسعة، وعوّض الأمة خيراً.
ما قام به الدكتور عبد الرحمن الحجي من أعمالٍ متخصصةٍ في تاريخ الأندلس يمثل جهداً كبيراً ومشروعاً شخصياً في سبيل إحياء تاريخ الأمة، والتعريف بحضارتها المنسية؛ إيماناً منه بأهمية التاريخ ودراسته في قدرته على بعث روح النهوض بالحضارة الإسلامية من جديد، وحسبه أنّه مات عاشقاً للتاريخ الإسلامي، وشيّد بمفرده صرحاً خالداً في تكوين الشخصية الحضارية، وترك لنا تراثاً صاغه من مهجته ووجدانه، وطرق لنا أبواباً لم يطرقها أحد قبله، وبموته كان خيرَ شاهدٍ على الجهد المتواصل في المعرفة، والاعتزاز بالحضارة.
إنَّ اتجاه الرأي مِن المؤسسات العلمية إلى تكريم هذه الشخصية الفريدة العلامة عبد الرحمن الحجي هو الذي يجب أن يكون؛ لأنها ستدلل لنا أنّ العاملين في صمتٍ ممن ركبوا كلّ مركبٍ صعبٍ في إحياء التاريخ لا تضنّ عليهم الحياة العلمية والفكرية بمشاعر التكريم والاعتزاز حتى لو كان بعد وفاتهم، وحبذا توجيه الباحثين إلى الكتابة في أطروحاتهم العلمية عن جهوده استكمالاً للصورة النيّرة لهذا المؤرخ المتفرّد.
لا يسعني إلا تقديم واجب العزاء لأبنائه وطلابه ومحبيه، والإعراب عن حزني العميق على فقد فقيدنا المرحوم، وإنّ غيابه عن طرحه التاريخي يمثل فراغاً كبيراً، يعزّ على غيره ملؤه.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights