2024
Adsense
مقالات صحفية

وداعة القرية

خميس بن محسن بن سالم البادي

في طريق عودتي من بيضة الإسلام وعاصمة الثقافة الإسلامية للعام الميلادي(2015) –ولاية نزوى- لمأرب كان لي هناك جَنّ عليّ الليل وأنا لم أبلغ غايتي بعد، وقد غلب عيناي الترنيق فآثرت الاسترخاء برهةً من الوقت وعلى مسافة من جانب الطريق العام الذي كنت أسلكه حططت رحلي، وقد صادف توقفي بالقرب من إحدى القرى الجميلة التي تكثر مثلها في البلاد، فأرخيت مقعد جلوسي في السيارة علّـي أحظى بقليل من التهجاع أطرد به ذلكم السلطان الذي داهم عيناي فجأة، ولكن للأسف السهاد كان الرفيق الحليف لي، حينها تذكرت مآثر القرى في بلادي والتي أتواجد لحظتها كما أسلفت بجوار إحداها وبذلك وجدت ذاتي أمد يدي إلى دفتري وقلمي وأشعل ضوء قمرة سيارتي وأخط بعض الكلمات عن روعتها،، إنها القرية وما أدراكم ما القرية..
إنها تلكم البلدة التي تقبع على جزء من الأرض بالوطن الكبير بعيداً عن مركز ولايتها وعن صخب المدينة وضجيجها وعصر المدنية وعجيجها، ولا خلاف أن ثمة فوارق بين قرية وأخرى باختلاف المواقع من حيث المكان الجغرافي وطبيعة المناخ وعادات وتقاليد السكان، وذلك دون الاختلاف في نمط العيش الذي قلّ ما يختلف من قرية لأخرى في هذا البلد الطيّب المبارك.
إن القرى العمانية نجدها في حيز من بعض الأودية وعلى جوانبها وبين الجبال ومنها ما يكون في (الظهرانيات)- الأراضي المنبسطة المكشوفة-، وهي تضم بين جنباتها في العادة عدداً محدوداً من السكان يتعارفون فيما بينهم وفي الغالب هم من قبيلة واحدة، حتى أن بعض القرى نجد مسماها على قبيلة سكانها، كما أنهم ممن يملكون أعداداً من رؤوس الماشية التي يستفيدون منها في الزينة والركوب لبعضها وغذائهم من بعضها الآخر.
القرية الهادئة من هدير محركات السيارات والشاحنات وحتى الدراجات وعجيج البشر والأضواء الزاعجة، عدا من صوت ذكر ماعز في الزريبة قد شبق بأنثاه وأخذ في مغازلتها للتزاوج وحال لسان مالكهما يدعو الله أن تسفد شاته لتلد له (سخلاً) ذكراً أو أنثى يقوم بتربيته إما للبيع أو التكاثر أو الذبح في مناسبة ما، ونهيق حمار سائب في البعيد قد ملأ معدته كلأً من خيرات الأرض المخضرّة بعد غيث السماء، أو هو لأحدهم من السكان حيث يستخدمون بعضهم الحمير في التنقل بين أروقة القرية وفي حمل أمتعتهم وغلالهم من البساتين، وخوار بقرة في حظيرتها تنتظر حلّابتها لتناولها كسرة من التمر لتعطيها بدورها من ضرعها لبناً خالصاً لذيذاً تطعمه لأهل بيتها هنيئاً مريئاً، وخرير مياه أفلاج ما بين داوودية وعينية وغيلية جميعها نجد مياهها منسابة رقراقة في سواقيها تروي البساتين الغناء الخاصة بالسكان في القرى الحريصين على العناية بها أيما حرص، ففيها يغرسون وبها يعتنون ولثمرها يحصدون ليأكلوه ثمراً طيب المذاق ولمواشيهم منها يقضبون ويؤبّون، وجانباً قد يتراءى للناظر وجود دعثور شيّده الآباء من غير إتقان لورد ماشيتهم فيه، حيث يتم إطلاقها كل صباح من زرائبها لتسرح في الجوار هنا وهناك تقتات من شجيرات وأعشاب كفاتا الطيبة المباركة، إذاً هو الضجيج والصخب المحبب هنا للسكان في القرية، السكان الذين نجد بينهم كل معنى التعاضد والتعاون والتآخي وقد جعلوا أنفسهم في منأى عن أي من منغصات الحياة العصرية بقدر ما يستطيعون إلى ذلك سبيلا، التي وإن هي حدثت فإنه يتم التغلب على معظمها في حينه من قبل وجهاء القرية لكبحها في مهدها حتى تعود الحال بينهم إلى ما كانت عليه وأفضل، ولا جدال أن للغرس الحميد المتوارث من جيل بعد آخر الأثر الطيّب بين الأهالي المتعاضدين في السراء والضراء فهو السائد بين السكان فتغلب بذلك مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد وبما يرضي طرفي الخلاف حال حدوثه، ذلك رغم ما حظي به الإنسان العماني عموماً من درجات علمية متقدمة والتحاقه بإخوته وأخواته للمساهمة في بناء وخدمة هذا الوطن العزيز، ولكن ابن القرية وفور عودته إليها وقت إجازاته المختلفة سرعان ما ينتمي إلى طقوس قريته الاجتماعية.
القرية التي حظيت هي الأخرى ببعض البنى التحتية والخدماتية إن لم تكن جميعها دون أن يغيّر ذلك من نمط عيش سكانها شيئاً، حيث تستقبل منذ الصباح الباكر نشاطها وحيويتها على أذان الفجر وصياح الديكة التي لا يكاد بيت يخلو من وجود قن للدواجن في ركن منه، فذلك شأن من اختصاص نساء البيت ماضياً فتربي المرأة بضع دجاجات في البيت تتربح منها ببيع بيوضها أو أفراخها وتجود بين الفينة والأخرى بعدد منها كوجبة لأفراد أسرتها، أما راهناً فتربية الدواجن في البيوت غالباً هو للاستهلاك الغذائي المنزلي، حتى إذا ما تنفس الصبح إلا وتستقبل بزوغ الشمس الباعثة بخيوطها العسجدية تبث أملها المشرق لنهار يوم جديد يسعى خلاله الأهالي في قريتهم إلى قضاء شؤون حياتهم في ود و تلاحم وتعاون، ولا ننسى هممهم في البحث عن العسل في مغارات وكهوف الجبال وعلى أغصان الأشجار بسفوح الجبال وفي بطون الأودية وعلى ضفافها، لحصولهم على ذلك الشراب مختلف الألوان الذي جعل الخالق عزّ وجلّ فيه شفاءً للناس، وعلى مسعاهم هذا هم ماضون حتى بلوغ الشمس مغربها، حيث يغسق المكان بليل دامس الظلام لا يبدد حلكة سواده سوى سنا البازغ المنشق حين يكون في ذروة عمر نشاطه الضوئي من لياليه، وحيث يلتف أفراد الأسرة الواحدة شتاءً حول الموقد المشتعل بحطب السمر أو الغاف للتدفئة وصناعة قرص من قمح البر على الجمر المتقد وطبخ حليب الماعز المحلى لاستخدامه إيداماً لذلك أو ما تيسر من غيره فيحلو السمر وتبادل أطراف الحديث مع عشاء طيب وخفيف، وللنوم صيفاً في الخلاء وعلى أسطح البيوت في ليلة ظلماء يجد المرء راحة نفسية أخرى له، فالهواء نقي عليل وفي السماء نجوم تتلألأ زهوّاً وفرحاً تتهادى للرائي كأنها تتراقص في مواضعها مضيئة يلامس ضوئها على استحياء الأرض ليبدو بعض النور الخجول يلوح في الآفاق، فيحلو للناظر تمنظر مرآها وهو مستلقياً على ظهره فوق فراشه الناعم البارد من برودة مناخ القرية المستمد نسماته الباردة من بساتينها الوارفة فيناظر النائم تلكم النجمات العالقة بتبتل في سمائها، في حين لا تخلو هذه اللحظات من غارات طائرة خاطفة مفاجئة من بعض طيور الظلام مثل الخفاش الذي يسمّى محليا لدى البعض بــ(العنفوف) والبوم الذي يعرف أيضاً بــ(المكنتاة) والدعلج ذو الأشواك الحادة والرائحة النتنة والذي يقتات على الأعشاب والحشرات وحتى الأفاعي والعقارب وغيرها من الزواحف الليلية التي يحلو لها هي الأخرى التجوال في جنح الظلام، وعَوْسٌ يجوب الأمكنة بحثاً عن فريسة يتمكن منها فيسد بها رمقه وتشبع صغاره إن كان له بعض الجراء في جحر بمكانٍ ما أو شنه هجوم مباغت على قن دجاج في حظيرة أو بيت أحدهم، وهذه الكائنات كما نعلم تنام نهاراً وتسعى ليلاً بحثاً عن قوتها، وفي البعيد القريب صوت طير المقابر بلحنه الزاعج والذي يطلق عليه البعض مسمى(المقيقيص) وصرير صرصور الليل آتٍ من بين شجيرات زرعت في المكان، فيظل المرء كذلك حتى تراوده سِنَة نوم فتأخذه غفوة السبات لتدور عليه الدورة الروتينية صباح اليوم التالي تلكم إذاً هي جوانب من أجواء القرية وشواهدها الحاضرة التي هي هبة الله في الطبيعة فالشكر والحمد لله جلّ في علاه..
تنويه:-
*الدعلج كما ورد في بعض المصادر هو الاسم الفصيح الذي طمسه العلم الحديث وعرّفه اليوم بالقنفذ، وقد أطلق عليه الآباء في ما مضى وإلى عهد قريب اسم الدعلج عملاً بلغة الضاد السليمة النقية على خلاف ما تشهده اليوم من لكنات ولهجات ولغات دخيلة عليها، كما هو اشتقاقاً من طبيعة عيش ذلكم الكائن النافع بيئياً للإنسان نتيجة التردد ليلاً على المكان ذهاباً وإياباً وشراهته في الأكل، هذا رغم وجود معاني أخرى لذات الاسم أيضاً.
*العوس عُرِف كذلك في اللغة بالعس ليلاً بحثاً عن الطعام و العاس هو من يكد على نفسه وعياله، وربما من هذا المنطلق أطلق الأولين هذا الاسم على الثعلب.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights