تنشئة المتفوقين
د . علي زين العابدين الحسيني
في ذاكرة كلّ شخصٍ بعض الأسماء التي لا يمكن نسيانها ممن زاملونا في الدراسة أو العمل، وهم يمتلكون عقولاً راجحة، ومهارات رائقة، لكنّها مع تتابع الأيام لم يبقَّ منها شيء، فذابت مع صعوبات الحياة ومشاغلها كما يذوب الملح في الماء.
للبيت واجباتٌ كثيرةٌ ومهامٌ عديدةٌ تُناط به خصوصاً في صناعة المواهب، وتحصيل الكفاءات الأعلى؛ حيث تأتي المسؤولية الكبرى في إعداد المتفوقين والحفاظ على مستواهم التحصيلي من البيت أولاً، فالأبوان يجب عليهما أن يغذيا أولادهم بالتعليم والمتابعة، وإن لم يكونا ذا علمٍ فلابد على الأقل من إرشاد بنيهم إلى المثُل العليا والقدوات العطرة.
وهكذا الإخوة الكبار فإنّهم يُزودون الصغار بالفضائل، ومِن ذلك جاء حرص التربويين على تكوين الأسرة الواحدة المتكاملة التي يكمل بعضها بعضاً خصوصاً في بابي المعرفة والتربية، فليست مهمة الأسرة توفير السكن وإيجاد المعاش فحسب، بل إنّ هناك أموراً عدة أسمى وأهمّ من ذلك.
من الأغلاط الواضحة في أمور تنشئة الأولاد أن يترك تربيتهم وأمر تعليمهم إلى المدارس، فالمدارس وإنْ كان لها جهودٌ في هذا الاتجاه إلا أنّها غير كافية، ولا تفي بالأغراض المطلوبة، ولا تلبي التطلعات المرجوة، فلا يمكن أن تنفردَ بهذا الواجب، هذا كلّه لو فرضنا أن المدارس بما أُوتيت من مناهج تعليمية ووسائل تربوية ساعيةٌ لإخراج جيلٍ متفوق متميز معرفياً وسلوكياً.
فيما مضى من سنواتٍ قليلة كانت المدارس تقدم لروادها مع قلة إمكانياتها علماً متأصلاً وتربية ناجحة، ومع سمو أعمالها إلا أنّ الأسرة لم تتكلْ عليها، ولم يفوض الآباء -ممن هم في طبقة آبائنا- أبناءهم للمدارس، مُسَلِّمين إياهم للتربية والتعليم، بل كان جُلّ الآباء -حتى مَن كان أمياً- يشاركون أولادهم في دراستهم؛ إيماناً منهم بأنّ البيت والأسرة هما الركنان الأساسيان في التعليم.
ومما يتفرع على هذا ترك الأبناء المتفوقين لأنفسهم، فلا يلتفت لهؤلاء ظناً أن الابن المتفوق عَرَف طريقه، وعلى بصيرةٍ من أمره، فلا يحتاج منّا التدخل في أمر تعليمه، وهو يعكس عدم فهم حقيقة التفوق؛ إذ المتفوق هو أولى مَن يُلتفتُ إليه، ويزاد في الاهتمام به، ويبالغ في الاعتناء بأمثاله؛ لأنّ الواجب رعاية المتفوق بما ينمي مواهبه، ويعزز تفوقه.
هؤلاء المتفوقون أصحاب القدرات العلمية الخاصة وأرباب المواهب الفريدة فئةٌ عزيزة منسيةٌ؛ لأنّ النظر يتوجه إلى الفئة ذوي العدد الكثير من الطلاب دون القليل، فيضيع المتفوق مع مرور الوقت إن لم تكن هناك جهة داعمة، وتضعف موهبته، وربما تضمحل وتموت، ومثل هؤلاء المتفوقين علمياً أو مهارياً ينبغي أن يكون لهم معلمون ذوو إمكانيات عالية بمناهج خاصة.
تحية خاصة لتلك الأسرة التي بسببها كتبتُ مقالي؛ لأنّي رأيت مِن اهتمام الوالدين بأولادهم في شتى المناحي ما لم أره عند غيرهم، وإنّ بواكير حياة هذه الأسرة تنبئ بأن لكل فردٍ من أفرادها مستقبلاً مشرقاً، كما أنّها نموذج مشرفٌ خليقٌ بأن تكتب تجربته التربوية بأحرفٍ من نور، حفظهم المولى، ووقاهم شرّ الحسّاد.