بوح الجدران
د. علي زين العابدين الحسيني – باحث وكاتب أزهري
منذ أن كتبت كلمات على يديّ وأنا صغيرٌ حتى لا أنساها اعتادت الكتابة حتى لو لم تكن الأوراق متاحة لي، فالخجل من نظر الناس إليك أو كلامهم يجعلك تحجم عن أشياء تكون فاتحة خير لك، والرجل النبيه هو الذي لا يعبأ بنظرة من حوله له، ولا يتأثر من كلامهم ما دام لم يخرج عن حدود الأدب، ولا شك أنّ مَن يمارس الكتابة قد يضطر في بعض الأوقات إلى الكتابة على اليد، وهو محل استغراب.
كانت لي هواية أو إن شئتَ قلت: (عادة) وهي الكتابة على جدار البيت، فكان هناك من ينهرني، ومن يشجعني إلا أنّي حفظتُ من رجل مهتم بالكتابة قوله لي: (اكتب في كلّ أحوالك، اكتب كلما أردت)، وكانت لكلماته وقعٌ في قلبي، وإلى الآن إن لم أجد ورقة أكتب فيها فقد أضطر لكتابة الفكرة أو العبارة على يدي حتى لا أنساها، والذي يعرف قيمة الكلمة يدرك أن مجيئها ليس متوفراً في كلّ وقت مما يجعله يسارع بكتابتها في أي موضع يظن أنها تحفظ بها حتى ينقلها.
ومما يتصل بهذا أدب الكتابة على الجدران أو ما يبوح به بعض هواة الكتابة من أسرار ومشاعر على الحيطان والجدران، وهو نوع من الأدب الرفيع يحمل كثيراً من الدلالات، حتى وإن كُتب بكلمات عامية، وأنا هنا أسميه أدباً؛ لأن الجدران في بلادنا لمن تأملها تحمل كلمات رائقة، ولن تصدقني حينما أخبركَ أني كنت أمشي في الشوارع بحثاً عن هذه الجدر المملوءة بالعبارات ذات الفوائد المتعددة.
وقد كتبت في مفكرتي من واقع الشوارع أمثلة من هذا البوح كثيرة، ومنها: أهذه الحياة التي كنت أركل بطني لأجلها؟، أعرف أنني لستُ رائعاً .. ولكني على الأقل كنت أنا دائماً!، السفينة في المرفأ آمنة ولكن ليس لهذا الغرض تبنى السفن، غطى الدخان سماء المدينة وكأنها خيمة عزاء كل من تحتها أموات، سلامٌ على المبتسمين رغم ما في القلب من عناء، استمرْ في الضحك .. ستموت قريباً.
ومنها: اللهم صبراً .. اللهم جبراً .. اللهم قوة، كبرتُ يا أمي وأصبحت أبكي دون علمك، انتخبوا مرشحكم الذي يرتقي بالثقافة والفن في البلد، إنّها حياةٌ قاسية يا رجل، لقد حاولوا دفننا .. لم يعلموا أننا بذورٌ، أمي مكان في العالم وليس مجرد شخص، أمي هي الحب، تذكر أن الفشل ليس عكس النجاح وإنما جزء منه، نحن التاريخ .. نحن الواقع .. نحن المستقبل، أخبروا الحظ أننا أحياء .. فليطرق بابنا ليلة، لا تحدثني عن الدين كثيراً .. دعني أره في في أخلاقك، وغيرها كثير.
وفي بعض الكتابات نوع فكاهة كما رأيتُ في السعودية لرجل كتب على جدار بيته: (رجاء: عدم كتابة على الجدران)، فجاء محب وعاشق للكتابة وردّ بقوله: (أبشر .. طال عمرك)، كما أن هذا النوع من الأدب يساير الأحداث ويكتب عن المتغيرات الحياتية، ومثاله الصورة التي انتشرت في وسائل التواصل الحديثة: (بعون الله الودود .. الكورونا لن تهزم مدينة الورود).
كان الدافع لي على هذه الكتابة أنّي رأيت أباً يزجر طفله الذي لم يتجاوز التاسعة من عمره على كتابته على جدار البيت، ونظرتُ فيما كتبه هذا الطفل فإذا هي حكمةٌ رفيعة يستلزم على أبيه شكره لا نهره، ومثل هذه الأفعال تقتل الإبداع، وتقضي على الهواية، وتنهي المهارة، ولا يمكن إصلاح قلب طفلٍ مكسور، وأما الكتابة على الجدار فإن سببت أزمة لهذا الأب فما أسهل علاج أمرها.