مولانا الفرضيّ
د. علي زين العابدين الحسيني
باحث وكاتب أزهري
إنّ أفضل ما يجنيه الشخص لنفسه مِن مُلازمة بعض الشخصيات المؤثرة أنّه يخرجُ بدروسٍ وعبرٍ يتحسس أثرها فيه عمراً مديداً، ويجد نفعها معه سنين عديدة، وهو ما حصل لي مِن خلال معرفتي بشخصيةٍ فريدةٍ أقلّ ما يقال عنه إنّه رجلٌ مِن الطراز الأول علماً وأدباً وكرماً وخُلقاً.
حينما كنتُ طالباً في الثانوية الأزهرية كانت هناك مادة معروفة بثقلها على النفوس، يتداول الطلاب جيلاً بعد جيل صعوبتها، فتسمع قبل الاقتراب منها بسنواتٍ عن صعوبتها، وهذه المادة تعرف بعلم الفرائض أو المواريث، ويعنون بها معرفة تقسيم التركة على الأحياء بعد وفاة ميتهم (مورثهم).
ولحسنِ الحظ أنّي كنت أسمع عن هذه المادة من سيدي الوالد قديماً إذْ كان من أساتذته المحببين إليه مَن عُرف بنبوغه فيها، وكانت هذه المادة تعتمد على الفهم لا الحفظ، فالمعلومات وإنْ كانت متوفرة سهل الوصول إليها إلا أنّها تبقى بعيدة، فلا تستطيع تطبيقها إلا بعد معرفة متأصلة، وإن كنتَ عارفاً بالمادة النظرية إلا أنّها لا تسعفك للإجابة عن المسائل التطبيقية.
وهو علمٌ من العلوم الذي يتداخل معه علومٌ أخرى، فيلزمك أن تكون ملماً بقدر من المعلومات في علم الحساب ومعرفة الأنساب، هذه حال المادة مع غالب الطلبة، وأما حالي فلم يختلف عنهم، فكنتُ كغيري أشتكي صعوبتها إلى أنْ وفقني الله عن طريق سيدي الوالد -حفظه المولى من كلّ سوء- لمعرفةِ أستاذٍ بارع فيها متخصصٍ في تدريسها منذُ ما يزيد عن نصفِ قرنٍ من الزمان، فقد ولد سنة (1327).
ذهبت إلى الشيخ الكريم، وكانت قريته بالنسبة لي ليست بالبعيدة، نزلتُ قريته باحثاً عن بيته، وكان الأمر سهلاً نظراً لكونه معروفاً مشهوراً، فلم ألبث إلا دقائق معدودة وأنا بين يديه في بيته، ولكَ أن تتخيل هذا الموقف، الطالب الصغير الذي يجلس بين رجل عالم كبير جاوز السادسة والتسعين من عمره، فحياته حياةٌ حافلةٌ بالعلم والتدريس، ومثالٌ صالح للشبيبة تقرأ سيرته للاقتداء بها.
في ذلك اليوم جلستُ متهيباً أمامه فلم أنطق بكلمة، وأخشى أن أرفع عيني كي لا تصطدما بعينيه إجلالاً لمقامه الشريف، لكن سرعان ما عرف الشيخ مرادي، وكأنّه طبيبٌ ماهرٌ يعرف وجع مريضه قبل الكشف عليه، ومنذ ذلك اليوم بدأت قصتي مع مولانا الفقيه الفرضي العلامة شحاتة سليم بقة الدقهلي الشافعي.
هي قصةٌ سطرتُ أغلبها في عدة مقالات وترجمة ذاتية للشيخ، وأنوي تسطيرها في رواية تحمل عنوان “مولانا الفرضي”؛ لأنّ مولانا الشيخ مثال حي على أثر المعلم على طلابه، وشاهد على كيفية حسن التعليم، فليت المهتمين يدرسون مثل هذه الشخصية الرائدة في الشرح والتحليل والتعليم في مدة وجيزة، ويقدموها كأنموذج يحتذى به في قوة التأثير.
بدأ الشيخ معي في صغار مسائل هذا العلم قبل كباره، وتدرج معي في حل مسائل الفرائض، كنت أشعر أن الشيخ يسقيني مسائله مع كلّ يوم، ولا يمل الشيخ وهو ابن التسعين من الدرس، فهو حريصٌ أشدّ مِن حرصك على نفسك، ، ونموذج مشرف لكيفية نقل الطالب من حالةٍ إلى حالةٍ، من حالة اليأس في المادة إلى حالة النبوغ، وتعد حركاته وكلماته تربية حية لكل طلابه.
قلتُ فيما مضى في كتابةٍ موجزة عنه إنّه: “صاحب نجدة وحدب على طلاب العلم، ساعياً لنشر العلم، حريصاً على تفهيم العلم لصغار الطلبة، متفقداً أحوال طلبته، وصاحب نظر متأن في تقريب العلم إليهم، وله في قريته والقرى المجاورة لها نشاطٌ مجتمعيّ حافل، وقلّ أن يجهله أحدٌ في الأزهر فقد ألحق الأحفاد بالأجداد”.
تعلمتُ منه هذا العلم بعد ملازمةٍ تامٍة لمدة سنتين لا أتغيب عن درسه يوماً، ولا زلت مع كل يوم أنتظر شروق الشمس؛ لأسرع في أمري متوجهاً إلى بيت شيخنا الفقيه للنهل من علمه وأدبه وسمته، كان هذا الأمر يومياً مع كلّ صباح لا أنقطعُ في صيفٍ أو شتاء، حتى لو مالت نفسك للتغيب فإنّ الشيخَ بوسيلة أو أخرى لا يدعُ لكَ فرصة التغيب أو الانقطاع عن حلقته الفرضية.
ينتظرني مع كلّ صباح هذا الشيخ الكبير المعمر لأتناول معه طعام الفطور، ويستمر مجلسنا إلى صلاة الظهر يتخلله بعض الراحة، فإذا صلينا الظهر فلا يسمح لي بالانصراف إلا بعد تناول طعام الغداء، كَرمٌ وجود قلّ مثيله مع أنّ حالته المعيشية ضعيفة، حيث كان يعيش في بيت متواضع من الطين، لكن يمتلك من الكرم وعزة النفس ما لم أره في غيره، وبالجملة فإنّ الجوانب المتميزة في شخصية هذا العالم كثيرة وفريدة يصعب في مقالٍ الإحاطة بها.
رحم الله شيخنا العلامة “شيخ الفرضيين” بالأزهر الشريف الحاج شحاتة بن سليم بُقَّة الدقهلي الأزهري (ت1431) الذي انتسبتُ إليه تلميذاً في مدرسته الواسعة، وهي أكبر من مدارس التعليم ومعاهد العلم؛ لأنّها أستاذيةُ تربيةٍ ومعرفةٍ وسُلوك.