2024
Adsense
مقالات صحفية

احترم كلمتك

أحمد الحراصي

الكلمة التي تنطلق من لسانك يجب أن تكون في حساب لا يمكن النقض بها، فعندما تعد على شيء يجب عليك أن تفي به مهما كلف الأمر عليك من ذلك؛ لأن في نقض الوعد لأسوأ إليك من أن تموت عطشا على أن تواجه الذل والاحتقار وأنت حيا. علينا أن نعي أن وعدنا لا يختلف عن عهدنا رغم أن الوعد يأتي من نية لتنفيذه على غير شرط وميثاق كما في العهد ولكن رغم هذا يبقى الوعد كلمة الحر التي يستطيع من خلالها أن يفي ديَّنه الغير مدفوع.

في الحقيقة، يجب أعترف بأن هناك الكثير من الناس في الوقت الحالي لا يحترمون كلمتهم التي يقولونها بأنها وعد، وعد أن نلتقي غدا، وعد أن أكون حاضرا معكم، سأفعل هذا في الوقت المحدد ووعد أن أشتري لك مثل هذا في السنة المقبلة، إلا أنها تذهب هباءً منثورا فلا يجدون ما يحفظ ماء وجوههم التي اسودّت من كثرة الوعود المناقضة. قد يبدو لديهم الأمر شيء مستهلك وأنه لا ضير في أن أتراجع عن الكلمة التي قلتها طالما أن نفسي غير مبالية في تنفيذه أو عدمه. لكنهم للأسف يجهلون أن للوعد احترام وديّن يجب أن يوفى مهما كان الأمد بعيدا لتنفيذه. فالكلمة التي لا تستطيع أن تنهيها مثلما نطقتها كان الأحرى بك أن تزنها يوم أن نطقتها وأن تسبقها بحسن نية في أن تفعلها يوما وإلا فإنك عرّضت نفسك للنفاق وستغدو منافقا أمام الرجال بعد أن تتعرض للتوبيخ والعتاب.

يجب أن نعرف شيئا واحدا عن الوعد والوفاء به، وهو أن لا تعد طالما أنك غير قادر على الوفاء بوعدك، احذر الوعد عندما تفتقد الجرأة والأمانة في تنفيذه. فالوعد هو الكلمة الوحيدة التي استطاعت الدول والقبائل المتناحرة أن تثق به فيما بينهم؛ لأن في الوعد ميثاق غليظ وعدم تنفيذه يعني العقوبة والجرم وفي نقضه ونكثه كالطعن غدرا وهذا عند العرب عار كبير سيلاحقك وأنت ما زلت حيا على هذه البسيطة وحتى بعد مماتك. يقول البعض أن الوعد شرك وقد أتفق عليه، فمن ذا الذي يكون على قدر هذا الوعد ويلتزم به. إن الوعد للرجال الذين يعرفون الكلمة ومعناها عندما تصدر منهم فلا جهل ولا تحايل في الأعذار الكاذبة والمصطنعة، فعندما يقول الرجل أنه يعدك فهو يعدك على حفظ شرفه، ومكانته، وأمانته، ودينه، ومجمل أخلاقه التي يتصف بها وبعدها لن ينكث وعده ولو على كان شفا حفرة من الموت.

وقد رأينا الكثير من الوعود والعهود التي عايشناها كقصص سطرها التاريخ ومن أهم ملاحم القصص التي سطرها التاريخ في الوفاء بالوعد، ما قاله السلطان الراحل حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- لحظة توليه حكم البلاد في مقولة لم ينسها الشعب العماني والعالم بأكمله (أيها الشعب، سأعمل بأسرع ما يمكن لأجعلكم تعيشون لمستقبل أفضل..) قالها وفعل، وعد ووفى بوعده، فكل ما نراه اليوم من ترف حاضر لم نكن نراه يوم أن أصدر الكلمة التي قالها ومع بداية توليه لمقاليد الحكم بدأت الكلمة تأخذ مجراها لتفي بالوعد الذي قطعه على شعبه، هكذا هم الرجال عندما يتكلمون الكلمة يحفظونها وينفذونها ويفعلون ما هم قادرين عليه لأجل الكلمة التي خرجت يومذاك، فرحم الله سلطاننا، الرجل الذي لا يقول كلمة إلا وهو يعرف بأن لها حساب يجب أن يوفى، صاحب نظرة مستقبلية وعزم وإصرار لتنفيذ ما وعد به شعبه، فلم تكن هناك أية مواثيق أو شروط تلزمه في فعل ما وعد ولكنه كان يعرف أنها كلمة هو قائلها والشعب قد سمعها لذا فعل ما توجب فعله من أجل احترام كلمته التي قالها آنذاك ونال احترام شعبه له حيا وميتا؛ لأنه حفظ العهد والوعد فنال الاحترام.

وربما قد سمعنا قصة كافور الإخشيدي حينما نزل عنده المتنبي كشاعر مدح بعدما نال سفاهة في غير سابقة من سيف الدولة الحمداني، وعده كافور بمنصب عالٍ في الدولة الإخشيدية فكان يمدحه لأجل أن ينال المنصب، لكن ماطله وعده لذا كان لا بد له أن يتلقى الهجاء من شاعر فطحل من فطاحل الشعراء كالمتنبي، ورغم ما اكتسبه كافور من مكانة في الشهامة، والشجاعة، والذكاء، ومدحه الكثير من الشعراء لكن تم طمسه بهجاء من المتنبي فأصبح حديث الناس في كل زمان ومكان ولا تزال حكاياته وقصائد الهجاء التي قيلت فيه باقية للآن وهذا كله من أجل أنه فند عذرا لوعده.

أوْلى اللّئَامِ كُوَيْفِيرٌ بمَعْذِرَةٍ في كلّ لُؤمٍ، وَبَعضُ العُذرِ تَفنيدُ
وَذاكَ أنّ الفُحُولَ البِيضَ عاجِزَةٌ عنِ الجَميلِ فكَيفَ الخِصْيةُ السّودُ؟

بعيدا عن العنصرية التي قالها هنا في حقه لكنه كان أراد أن يصل لمفهوم واحد وهو أن للوعد وللكلمة أصول واحترام فلا بد من تنفيذها، فما أقبح من يفند عذره بأكاذيب زائفة! .

إن المتنبي شاعرٌ عربيٌ عَرِفَ الكثير من الصفات التي يتحلى بها العربي ولذلك نجد في الكثير من أبياته في المدح تكثر فيها صفات العربي الأصيل، فلم تخلو قصائده من ذلك حتى ولو على نفسه حين قال:
الخيل والليل والبيداء تعرفني،،، والسيف والرمح والقرطاس والقلم

لذلك عندما واجه موته أمام فاتك الأسدي ربما نسي ما قاله في الشعر الآنف ذكره ولكن حينما ذكّره غلامه به تراجع وقاتل فقتل من أجل الكلمة التي قالها؛ لأنه يعرف أن في ذلك عار كبير لشاعر يمدح نفسه دون شيء لذا خلده التاريخ على أنه شاعر عصره ومات على الكلمة التي قالها، وهذا ما أعنيه عندما كنت أقول أن لا تنكث وعدك ولو كنت على شفا حفرة من الموت فصارت حياته أرخص من الكلمة التي قالها، ربما سيقول البعض أن هذا هو الجنون بعينه لكنها في النهاية تبقى الكلمة التي قالها أشد من أن تظنونه أنتم جنون فهل فينا مثل المتنبي؟ .

كتبت هذا المقال لأجل ما رأيته من ضياع الكلمات وسط الزحام دون أن تجد طريقا وبابا يفتح لها لتفي بالوعد الذي قطعته، فلا تقطع وعدا وأنت لست أهلا للوفاء به وأقولها بصراحة من لا يحترم كلمته التي ينطقها لا تنتظر منه شيئا ما حييت، ابتعد عنه واجعله يندم على فعله إن كان لا يزال الدم العربي يجري في عروقه وإلا فأن الرجل أصبح ميتا بالنسبة لك إن لم تحكمه الظروف لأن يقطع وعده عليك فهو غير كفءٍ للكلمة التي يقولها، ولا بد أنكم عايشتم جميعا مثل هذه الأمور التي يظنها البعض أنها <عادية> لكنني والبعض يراها <غالية> ودفع ثمنها قد لا يتسع حياتك، أنا لا أبالغ أبدا في هذا فمن سيقرأ التاريخ العربي والإسلامي سيدرك صحة كلامي ولكن نخوتنا العربية الحالية هي من دفعتنا لأن نقول لمثل هذه الصفات أنها <عادية>، فنكث الوعد صفة ذميمة ودنيئة لذا أقول وفقط [احترم كلمتك].

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights