خطاب مفتوح إلى السيد ماكرون رئيس الجمهورية الفرنسية
د. علي محمد الصلابي
أنت ذكرت، بأن الإسلام يعيش أزمة في كل مكان بالعالم، وإن على فرنسا التصدي لما وصفته بــ” الانعزالية الإسلامية” الساعية إلى “نظام موازٍ وإنكار الجمهورية الفرنسية”، وبأن هناك “تشدد إسلامي يتخذ العنف منهجاً له”.
أريد أن أسألك في البداية: هل تعلم بأن الكثير من المثقفين والنخب والساسة الأحرار في العالم العربي والإسلامي يرون بأن السيد ماكرون ورؤيته للعالم العربي والإسلامي قائمة على دعم عصابات الإجرام والاستبداد والتصدي للثورات الشعبية التي تناضل من أجل حريتها وكرامتها وحقوقها المسلوبة والمنتهكة والمغتصبة وتكافح لأجل دولة القانون والحريات والتعددية والدولة المدنية ودولة الدستور وحق الشعوب في اختيار حكامها!؟
…. إن النخب العربية والإسلامية الحرة من أبناء هذه الشعوب يرون أن أعمالك في ليبيا داعمة للإرهاب والاستبداد، وذلك بمختلف أشكال الدعم المادي والعسكري والدبلوماسي في المحافل المحلية والدولية، بل يرون أنها شجعت الميليشيات والعصابات المسلحة من الجنجويد وفاغنر والمتمردين وغيرهم على غزو عاصمة الأحرار “طرابلس”، وهذا لا يحتاج لدليل، بل أثبتت الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة، بأن الأسلحة الفرنسية الحديثة التي وقعت بأيدي قوات حكومة الوفاق الشرعية خير دليل على التورط الفرنسي في سفك الدماء الليبية وعدم استقرار الدولة وانحازت للخارجين عن القانون والشرعية، ولم تحترم بذلك قيم الشعب الفرنسي القائمة على مبادئ الثورة الفرنسية.
وإنك انغمست في تحالف إبليس وخندق الشر، طلباً للمصالح من أنظمة تنهب الشعوب العربية والإسلامية، تلك الأنظمة التي كبلت شعوبها وقمعت حرياتهم. فأنت من ساندت الأعمال القمعية ضد الشعب المصري العظيم، ولم تنحاز لحقوق الإنسان المنتهكة فيها ليلاً ونهاراً.
… السيد ماكرون: إن الأحرار في العالم العربي والإسلامي من النخب المثقفة يرونك بعيداً كل البعد عن قيم الثورة الفرنسية والتي نادت بالعدالة والمساواة والأخوة الإنسانية وحاربت الاستبداد والديكتاتورية، وساهمت في تغيير مجرى التاريخ الإنساني نحو حقوق الشعوب بعد ما كانت مختزلة في (أنا) الأمراء والملوك والإمبراطوريات.
وفي هذا المنحى يطول الحديث للأسباب الدافعة لتوريط فرنسا وكأنها مساندة للأنظمة الظالمة والإجرامية في بلاد العرب والمسلمين، التي فتحت السجون لشعوبها، وقتلت أحرارها، وطاردت خيارها، وجعلتهم مشردين ولاجئين في مشارق الأرض ومغاربها.
إن الكثير من أبناء الشعب الفرنسي لا يؤيدونك في هذه السياسات، ولربما سنجدك خارج ملعب الانتخابات القادمة، لما اتصف به حُكمك من الرعونة والرخاوة الإدارية، والفشل في السياستين الداخلية والخارجية.
إن موقفك مفضوح عند الأحرار ودعاة القيم الإنسانية، وما فعلته في ليبيا خير دليل:
– داعم للحروب الظالمة
– ساهمت في سفك الدماء في ليبيا
– لم تعمل على إحلال السلام والمصالحة الوطنية في ليبيا
– تعمل على منع الشعوب في بلادنا من نيل الحرية، من خلال دعم عصابات الإجرام، وتعميم ثقافة التجهيل، والوقوف مع الدكتاتور المستبد …
أما السؤال الكبير الذي يحتاج إلى إجابة: هل الإسلام يعيش في أزمة!؟
فلنترك المسلمين الذين يحاولون التماس طريقهم نحو القيم الإنسانية وهويتهم ومشروعهم الحضاري الذي هو قادم لا محالة (إن شاء الله) كما تحدث عنه علماء الحضارات من بني الإنسان. فسنن الله في الدورات الحضارية وعوامل تمددها وانكماشها وسطوعها وزوالها لصالح القيم الإنسانية الإسلامية الحضارية.
… هل يعلم ماكرون أن الدين الإسلامي هو خاتم الرسالات السماوية التي نزلت منذ آدم عليه السلام ومروراً بنوح وهود وصالح وإبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف وموسى وعيسى عليهم السلام جميعاً؟
إن دعوة الإسلام امتداد لهذا الموكب العظيم؛ فالإسلام هو دين إبراهيم وموسى وعيسى والأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام، وقائم على التوحيد الخالص لرب العالمين بعيد كل البعد عن اتخاذ الصاحبة والولد كما قال إبراهيم عليه السلام عن رب العالمين في قرآننا الكريم: “إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ* الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ* وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ* وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ* وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ* وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ*” الشعراء: 77 – 82.
وهو قائم على التوحيد الذي دعا إليه عيسى عليه السلام وهو في المهد:”إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وجعلني نَبِيًّا* وجعلني مباركا أين مَا كنتُ وأوصاني بِالصَّلَاةِ والزكاة مَا دمتُ حَيًّا* وَبَرًّا بوالدتي وَلَمْ يجعلني جَبَّارًا شقياً” مريم: 30 – 32.
فالإسلام في عقيدته وتوحيده منسجم كل الانسجام في منظومة منقطعة النظير مع الفطرة الإنسانية السوية والعقل البشري والوجداني الآدمي، والإسلام غذاء روحي للروح الإنسانية في أشواقها وتطلعاتها إلى خالقها العظيم، فهو يملك تصوراً لا تملكه النصرانية التي تعرضت للتشويه والتزوير والشبهات. وجعلت شعوباً في العالم تطلق لعقولها ونظرتها ومنطقها ووجدانها العنان، وأن تتمرد على الخرافات والخزعبلات التي نُسبت للنصرانية وهي منها براء. وأنت على اطلاع بالصراع الذي حدث بين الكنيسية وأصحاب العقول النيرة في أوروبا، وكان خاتمة هذا الصراع أن أصبحت الإنسانية تائهة عن قيم الأخلاق وسعادة الروح وحقيقة التوحيد وإفراد العبادة لله عز وجل بمفهومها الشامل بين الإنسان وخالقه وعمارته للأرض، بعد التشبع المادي الذي مرت به أكثر فأكثر.
يا سيد ماكرون: إن الإسلام يُقدم التصورات السليمة للعقول المستقيمة والمنطق القويم والفطر التي لم يتغلغل في أعماقها الشيطان، والروح الإنسانية التي لا تهدأ إلا بمعرفة خالقها سبحانه وتعالى وعبادته.
… يا سيد ماكرون: إن الإسلام العظيم ونبيه الكريم (صلى الله عليه وسلم) الذي بشر به موسى وعيسى (عليهما السلام) في التوراة والإنجيل يقدم للإنسانية رؤية متكاملة الأركان:
– عن فلسفة الحياة
– عن حقيقة الموت
– عن عالم البرزخ
– عن الجنة والنار
– عن القضاء والقدر
– عن موكب الأنبياء والمرسلين والرسالات السماوية.
الإسلام يقدم منظومة متكاملة لا تتعارض ولا تتناقض مع العقل الإنساني والوجدان الإنساني والمنطق الرفيع الذي تحتكم إليه الإنسانية عند صفائها الروحي. وهذه المنظومة تدخل في القيم والأخلاق على:
– مستوى الأفراد: في الصدق والأخلاق والمعاملات والشجاعة والتعاون والمروءة والشهامة والمعروف.
– مستوى الأسرة: القائمة على الرحمة والمودة واحترام النسل والابتعاد عن الزنا واللواط والمثلية وشرب الخمور وتعاطي المخدرات وتفكيك المجتمع.
– مستوى الدولة: في العلاقة بين الحاكم والمحكوم والقضاء ومحاكمة الحكام ومحاسبتهم عند الانحراف عن القيم الدستورية، وعلى مبدأ الشورى وحق الأفراد رجالاً ونساء في المشاركة السياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والقانونية والشخصية.
– مستوى الإنسانية: في إحلال السلام والتعارف والتضامن وتبادل المصالح بموجب مبادئ العدل وعدم الغبن واستغلال الشعوب الضعيفة في مواردها وثرواتها وخيراتها.
دين الإسلام يقدم للإنسان المصدر الصادق الخالي من الخزعبلات والأكاذيب والافتراءات والشبهات عن سادة البشر؛ بدءاً من سيدنا آدم عليه السلام ومروراً بنوح وإبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف وموسى حتى محمد خاتم الأنبياء والمرسلين عليهم السلام.
قال تعالى: “وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ ۚ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ ۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ كُلًّا هَدَيْنَا ۚ وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ ۖ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ ۖ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا ۚ وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ ۖ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۚ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ* أُولَٰئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ۚ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ۗ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ۖ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ *” الأنعام: 84 – 90
وتصل نسبة المصداقية في هذه الأخبار والقصص لنسبة 100% بشهادة المنصفين من العلماء الراسخين في علم التاريخ والفلسفة والكلام من غير المسلمين. ويسلط الأضواء على هذه المرجعيات الكبرى في تاريخ الإنسانية ويقدم لهم مدرسة متكاملة:
– في مجال العقائد
– في عالم الروح
– القيم والأخلاق والمبادئ
– عبادة الله بمفهومها الشامل في حركة الحياة وعمارة الكون وخلافة الإنسان.
إن الحديث يطول يا سيادة الرئيس عندما تعرف حقيقة الإسلام بموازين الانصاف والعلم.
ستكشف أن حل الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والروحية والأخلاقية والعقائدية والفكرية وإجابة الأسئلة الوجودية الكبرى للإنسان في الإسلام العظيم.
قال تعالى: “وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ تِبْيَٰنًا لِّكُلِّ شَىْءٍۢ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ” النحل: 89
وقال تعالى: ” وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ” الأنبياء: 107