2024
Adsense
مقالات صحفية

في وفاة شيخ المُحدّثين نور الدين العتر الحلبي

د . علي زين العابدين الحسيني _ باحث وكاتب أزهري

تأتينا الأيام بأخبار وفاة أعلامٍ من عُلماء الأمّة كانتْ لهم آثارٌ واضحةٌ في البناء المَعرفيّ، فينزوي الشخص بنفسه ليكتب تعريفاً عنهم يحاول فيه الإخبار بعلوّ شأنهم، وبيان منزلتهم العلمية، وإظهار جهودهم، وقد يُحجم الإنسانُ في كثيرٍ من الأحيان عن الكلام في بعض الأعلام ممّن لهم شأنٌ كبيرٌ مُعترفاً بضعفه وتقصيره في الإلمام بحياة بعض الأشخاص الذين أثرَوا الأمّة الإسلامية بجهودٍ عظيمة.

وبينما تستعدّ للكتابة عن عَلمٍ مِن الكِبار وافتهُ المنيّة، إذْ بالأخبار تأتي بموت آخرين، فيصيبك من الهمّ والحزن ما يكون حائلاً بينك وبين إكمال ما بدأتَ فيه، فضلاً على أنّ مثل هذه الكتابات قد لا أرتضيها لهؤلاء الأعلام؛ لأنّهم يستحقون دراساتٍ مُستفيضة، فالمَقال الواحد لا يفي بحقهم، ولا يُظهر فضلهم.

حملتْ لنا الأخبار يوم الأربعاء السادس من شهر صفر سنة 1424 يوافقه 23 من سبتمبر سنة 2020م وفاة العالِم المُحدّث والفقيه المُفسّر الشهير الدكتور نور الدين العتر الحلبي الأزهري بدمشق الشام، حيث وافتهُ المنيّة عن عُمرٍ يُناهز 83 عاماً قضاها في العِلم، وتدريس العلوم الشرعية، وتأليف المؤلفات النافعة، وتحقيق كُتب التراث.

المرحومُ عالِمٌ متفننٌ، ومحدثٌ ناقد، ومفسرٌ فقيه، وأزهريّ المنهج والدراسة، وشريفُ النسب من جهة أبيه وأمّه، وسليلُ أسرةٍ علميةٍ عريقةٍ في العِلم، ولد في حلب الشهباء سنة 1356، وحصل فيها على الثانوية من (المدرسة الخسروية) الذائعة الصيت في تدريس العلوم الشرعية، ثم توجّه إلى الأزهر الشريف فحصل على الليسانس من جامعة الأزهر سنة 1958م، وكان الأوّل على دفعته مما جعله محلّ نظرٍ وتقديرٍ.

واصلَ شيخنا دراسته في الأزهر المجيد إلى أنْ حصل على الشهادة “العالمية” من درجة أستاذ (الدكتوراه) سنة 1964م بتقديرٍ (ممتاز) مع مرتبة الشرف في شعبة التفسير والحديث عن أطروحته العلمية: (طريقة الترمذي في جامعه .. والموازنة بينه وبين الصحيحين) التي وُصفتْ من المتخصّصين بأنّها نموذجٌ فريدٌ مضموناً ومنهجاً، واعتمدت كمُقرّرٍ جامعيّ.

عاد بعد حصوله على (الدكتوراه) إلى بلده “سوريا” ناشراً للعِلم حامِلاً معه المنهج الوسطي، وتدرّج في الوظائف التعليمية والأكاديمية، بدءاً من تعيينه مُدرّساً في المرحلة الثانوية ومروراً بتدريسه في كثيرٍ من الجامعات الإسلامية في مختلف البلدان؛ كالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة إلى أن استقرّ أستاذاً في كلية الشريعة بدمشق، بالإضافة إلى تدريسه في كلية الآداب بحلب ودمشق، وكونه خبيراً مختصاً لتقويم المناهج في الجامعات، وإشرافه على كثير من الأطروحات العلمية، وتدريسه في المساجد، وأداء واجباته الاجتماعية.

لأستاذنا الفقيد السّبق المُعلّى في علوم الحديث روايةً ودراية، وله فيها الكثيرُ من المؤلّفات والتحقيقات التي قَررتْ دراستها بعضُ الكليات الشرعية، وصنّف ما يزيد عن 50 كتاباً، منها: منهج النقد في علوم الحديث، وإعلام الأنام شرح بلوغ المرام، وأصول الجرح والتعديل وعِلم الرجال، وعلوم القرآن الكريم، والنفحات العطرية من سيرة خير البرية، وغيرها، وتعدّ كتبه على تنوع فنونها مراجع هامة للباحثين والدارسين.

كنتُ مبتوتَ الصلة الشخصية بشيخنا المرحوم، ولكنني كنتُ من مُطالعاتي واقفاً على جهوده من خلال كتبه، وانتهزتُ فرصة زيارته لمصر، فكان لي شرف رؤيته، والأخذ والتلقّي عنه، وحصل أول لقاء لي معه في كلية الدراسات الإسلامية والعربية بجامعة الأزهر في حضور مناقشة رسالة (دكتوراه) لأحد الطلبة الدمشقيين، حيث حضر شيخنا المناقشة مع نخبةٍ من أرباب العِلم.

كانت المناقشة فرصة للاجتماع به، فتعرّفتُ من خلالها على شيخنا عن قربٍ، وطلبتُ منه أن يجيزني عامّة ما له من مروياتٍ، فأجازني -تفضّلاً منه وكرماً-، وقد استعجب يومها كثيرٌ من الحضور؛ لأنه كان شديداً وعسراً في إجازته وقتها، فلا يُجيزُ أحداً إلا بصعوبةٍ، ولكنّ السماع والإجازة رزقٌ، كان ذلك في سنة 2005م، أو سنة 2006م، فالذاكرة خؤون.

نزل شيخُنا بعدها ضيفاً على مصر وأهلها سنة 2011م، وتشرّف وفرِح بحضوره عُلماء الأزهر، وطُلب منه إقراءُ كتاب (نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر) للحافظ ابن حجر، فأقرأه في عدة مجالس بالأزهر العظيم، وكنتُ ممن حضرتُ بعض هذه المجالس، وأجاز شيخُنا في مجلس الختم الحضورَ في الكتاب المقروء خصوصاً وفي سائر مرويّاته وأسانيده عموماً، وكان مجلس الختم يضمّ الآلاف من المشايخ والعلماء والطلبة الدارسين بالأزهر.

عاش الدكتور نور الدين العتر حياةً طويلةً عريضة لم يُعرف عنه فيها إلا رسالتان: رسالة العِلم، وقد أدّاها على أكمل وجهٍ مُعلّماً، ومُرشداً، ومؤلفاً، ومحققاً، وأستاذاً جامعياً، وعاكفاً على الإشراف على الأطروحات العلمية، ومساهماً في البحث العلمي حتى ترك وراءه كمّاً هائلاً من المؤلفات والتحقيقات، ورسالة القيام بأعباء الحياة الاجتماعية، وانفرد فيها عن غيره بالإصلاح والحكمة والتعقل.

مضى شيخنا إلى ربّه تاركاً وراءه سيرة من أعطر السيَر، وطلاباً نبهاء أحسب أنهم سيقومون بواجباتهم العلمية على أتمّ وجه، ولله الأمر من قبل ومن بعد، وبهذا المصاب الجلل أتقدم بخالص العزاء إلى علماء الأزهر وشيوخه وأهله وذويه ومحبيه وطلابه، كما أسأل الله سبحانه أن يرحم شيخنا رحمة واسعة، ويتقبله في الصالحين، ويسكنه فسيح جنانه.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights