2024
Adsense
مقالات صحفية

مُتقاعد زعلان

حمد بن سالم الفلاحي

shialoom@gmail.com

التقيتٌ كثيراً بأُناسٍ متقاعدين في مناسباتٍ مختلفة؛ ومِن مستوياتٍ وظيفيةٍ متفاوتة، وجُلّ هؤلاء الذين التقيتهم، حتى الآن، غير راضين عن الجهات التي تقاعدوا منها، سواء أكان تقاعداً اختيارياً (استقالة) أو تقاعداً قانونياً (بلوغ الستين عاماً) وعدم الرضا ناتج أكثر عن عدم تقدير الإدارات التي عملوا فيها لهم.
وذلك في مختَلف الجهات، سواء كانوا في الجهات المدنية، أو العسكرية على حدٍّ سواء، ويأتي تدنّي مستوى الرضا عند الجميع مِن سوء المعاملة التي تلقَّوها إبّان وجودهم في وظائفهم، كما يقولون، حيث شكّل سوء المعاملة النسبة الأكبر، وإنْ كانت هناك أسباب أخرى، وهي عدم القدرة على تحقيق كلّ الآمال والطموحات المعقودة على الوظيفة من نظرتهم الشخصية، بعد أنْ اكتملت عندهم مُعظم المعايير التي على أساسها يتمّ التدرّج الوظيفي والترقّي الإداري والمالي، وهنا أيضا لا أعمّم، فكِلا الطرفين: الزعلان والراضي توجد بينهما حالات استثنائية، لا يجب غضّ الطرْف عنها عند مناقشة هذه المسألة مِن جوانبها المختلفة، وجُلّ مَن التقيتهم قيّموا حالة عدم رضاهم حول عدم حصولهم على حقوقهم الوظيفية أثناء وجودهم على رأس أعمالهم، وهي حقوق يقرّها القانون الإداري، ويضع لها الاعتبارات المِهنية الواجبة، ولكنْ لا تجد طريقها إلى التنفيذ، حيث يجد البعض الفُرصة السانحة للإساءة إلى الآخَر مِن خِلال تحجيم دَوره، والنظر إلى حقوقه على أنها “مِنّة” مِن المسؤول، وليستْ حقاً يقرّه قانون المؤسسة، ولا بدّ أنْ يكون وراءه مُطالب، إنْ لمْ يجده طالبهُ اليوم في الوظيفة، سيحمِله المسؤول حملاً ثقيلاً في يومَ لا ينفع فيه مالٌ ولا بَنون، وما ذلك العمر ببعيد.

هنا وإنْ كانت طبيعة النّفْس لا تَقنع بالقليل، ولا يمكن أنْ تَصل نسبة الرضا غايتها، وكما هي المقولة “رضا الناس غاية لا تُدرك” ولكنْ تبقى بعض الحقائق ماثلة في كثيرٍ مِن هذه المُمارسات التي تَتجاذب فيها أطرافٌ كثيرةٌ حقيقة المسؤولية، حيث يعدّها البعض الغاية الكبرى، وهذا في حدّ ذاته مشكلة موضوعية في المسألة الإدارية، وهذه إحدى علامات الرضا مِن عَدمه لدى مجموعة المتقاعدين؛ فالذين ينظرون إلى الوظيفة على أنها غاية، فتتلبسهم الوظيفة فلا يستطيعون الفكاك عنها إلا بـ “القوة”، حيث يبذلون الجهد الجهيد لأنْ يبقوا ما أمكنهم البقاء، حتى ولو وصلوا إلى حالات الاستثناء المتكررة، والقول أنّ التقاعد به فراغ، وأنّ المتقاعد لنْ يجد ما يشغله، فهذا أقبح مِن ذنب، فالحياة على اتساعها الأُفُقي يحتار الواحد منها أيّ الطُرق يسلك، وأمّا مَن ينظر إلى الوظيفة على أنها وسيلة، ومتى أوصلت هذه الوسيلة بصاحبها إلى غايات طيّبة، فلا أتصوّر أنّ الوظيفة سوف تكون محوره الأساسي إلا بقدْر الجهد والإخلاص والصدق والأمانة المطلوبة منه توظيفها في ميدان الوظيفة، وبالتالي فلنْ تُشكّل عنده مرحلة التقاعد “مِحنة” يبحث لها عَن حَلّ؛ بقدر ما تكون فسحة أمل أخرى على اتساع الأُفُق، له أنْ يُنجز فيها الكثير مما كان غير متاح في أثناء مزاولته للوظيفة الرسمية.
ومِن هُنا تأتي ظاهرة المتقاعدين الباحثين عَن عمل، ولذلك فمَن يتصوّر أنّ موظفاً قضى ثُلُثي عُمره في مؤسسةٍ ما، يخرج منها متقاعداً ويذهب ليبحث له عَن عملٍ في مؤسسةٍ أُخرى، يقيناً لنْ تكون في مستوىً مِهني مِن المؤسسة التي خرج منها، وبالتالي فعليه أنْ يبدأ مِن جديدٍ ليؤسس لها كياناً اجتماعياً، قبل كلّ شيء، ومِن ثمّ مهنياً، وهو في عُمر لمْ تعُد الطُّموحات والآمال التي كانتْ قبل ثلاثين عاماً حاضرةً اليوم.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights