سامحيني
إلهام السيابي
جلست هند على كرسي الطائرة القريبة من نافذة الزجاج لتستطيع أن ترى حركة الطائرات الأخرى الجانبية وحركة الناس، ثم بدأت بقراءة دعاء السفر، وبعد أن انتهت من الدعاء فتحت مصحفها الصغير الذي أخرجته من حقيبتها السوداء التي تتوسد حضنها، وبدأت في قراءة بعض السور القرآنية، وعندما أحست بالطمأنينة بدأت بالدعاء والاستغفار والتسبيح لتُبقي ذهنها وكل لحظاتها في ذكر الرحمن، لم تكن تريد أن تترك أي سبب لتوسوس لها نفسها بأي أمر، مبعدة عن رأسها ذكريات تحاول أن تنساها، ولكن صورة خالد لم تبعد أبدًا عن فكرها، كيف لها أن تنسى زوجها؟ وها هي قد طلبت الطلاق وتركته يتخبط بأفكاره. أجل لقد حفظت كرامتها لأول مرة في حياتها.
خالد زوجها وابن خالتها، الرجل الذي طالما كان فارس أحلامها الذي تحلم به، لم تترك لنفسها فرصة بأن تحب غيره، كان هو كل شيء .. هو الأهل الذين فقدتهم .. هو الحبيب الذي نقشت اسمه في قلبها منذ صغرها .. هو الهواء النظيف الذي تتنفسه .. هو من أجمل العطور التي يبقى أثرها حولها فتبث روحها بأجمل الابتسامات، كل شيء جميل تراه في خالد. كم كانت فرحتها كبيرة عندما فاتحتها خالتها بأمر الزواج، فهي الآن بمثابة أمها بعد وفاة والديها وبقيت مع خالتها وتحت رعايتها، ما تزال تتذكر كيف تراقصت على أنغام خيالية لم تكن إلا في رأسها هي وكأنها تسمعها حقيقة وهي تتراقص بخطواتها بفرح وسرور معلنة بموافقتها الأكيدة بقبولها خالد زوجا لها. الرجل الذي شغل فكرها ولم تغمض عينيها من كثرة خوفها أن يتركها وحيدة لرجل آخر، ولكنه استجاب لرغبة والدته، فكم كانت فرحتها عظيمة عندما أخبرتها خالتها بالأمر وتطلب رأيها، ما زالت تتذكر وهي تضع رأسها بين ركبتي خالتها وهي تمشط لها شعرها بكل رقة ثم توقفت ونظرت لها وهي تقول: “هند، هل توافقين على الزواج من خالد ابني؟ لقد طلب مني أن آخذ رأيك”.
لم تستطع أن تخفي فرحتها وبهجة قلبها وسعادتها الكبيرة، خالد خالد يريدني زوجة له، لن تنسى تلك الفرحة أبدًا وهي تلتف حول نفسها بدوران كامل بثوبها الفضفاض وكأنها طفلة صغيرة فرحة، تتراقص على أغاني نسجتها في خيالها وأحلامها، وتم زواجهما في قاعة صغيرة حضرها الأهل والأحباب، وكانت هند تتوهج فرحا بفستانها الحريري المزين بأجمل القطع الكريستالية والفصوص المتراصة بشكل لوزي .. لم يكن فستانها أبيضا بل كان أخضرا لؤلويا وكأنها فراشة جميلة تتراقص على ورود متفرقة على مسرح القاعة، وتم الزفاف. دخل عليها خالد بزهبته الرجولية وبدأ بنزع ملابسه ولبس جلابية نومه التي كوتها بيديها وعطرتها بأجمل العطور، ثم جلس بجانب عروسته يتأملها، وبدأ حديثه الجميل يداعب أذنيها، ولكنها لم تبتسم وهو يقول لها: “لا أريد أن أفقد احترامك لي”
أجابته بهدوء: وكيف ذلك؟
أجابها بكل صدق :قلبي ليس ملكي.
هنا بدأت تستوعب كل الحديث وكل الاستفهامات التي كانت تجول في رأسها، لقد أحب خالد فتاة أخرى اسمها دلال، لكنها فضلت عليه رجلا آخر وتزوجت منه، فأصرت أمه على تزويجه ليستطيع أن ينساها، ولكن يبدو أنه لم يستطع ذلك، وها هو يعتذر من هند لعدم قدرته على الاقتراب منها، كادت أن تبكي ولكنها ابتسمت وقالت لخالد:
“سأبقى دوما بجانبك لاتخف”.
لم يقترب منها، لقد كان يعاملها دوما بحب وود واحترام ولحبها الشديد له لم تبال أبدًا بذلك كان يكفيها أن تبقى معه. ولكن الأمور لم تبق على حالها، فحبه القديم بدأ يعود من جديد، إنها المرة الأولى بعد ثلاث سنوات من زواجهما تلاحظ هند تغيير في ألوان ملابسه وحبه للتعطر وكثرة تزيين عنقه بعطر المسك المحبب لهند، أجل لقد عادت محبوبته السابقة دلال، بعد طلاقها من زوجها بسبب كثرة طلباتها، وحب سيطرتها الكاملة عليه مما أدى لانفصالهما.
بدأت هند بالإحساس بالخوف فهي لم يعد لها أحد بعد وفاة خالتها إلا زوجها خالد، وها هو يحاول أن يعود لحبه القديم، غير أن خالد تبدل في أسلوبه مع زوجته، فبدلا عن أن يبتعد عنها بدأ بالاقتراب أكثر منها، يأخذها معه للمطعم ليأكلا، ليجد محبوبته دلال هناك مع صاحباتها، تحاول التغزل به ومواجهة زوجته الهادئة التي كانت تشتعل نارا وغيرة.
كان خالد كريما بطبعه، فيحضر لزوجته هند الكثير من الهدايا؛ العطور .. الملابس الجاهزة .. قطع الحرير والذهب، وبدأت هند تتساءل: ترى أهو إحساس بالتقصير والنقص؟ أم نوع من الخدع ليحاول أن يكسب الاثنتين معا؟ لم تستطع أن تعرف ولكنها تعبت من الترقب، وها هو يحضر لها تذكرتا سفر لهما لبلاد بعيدة، وكأنه يعوضها عن شهر العسل الذي لم يقضيانه معا، كانت الوساوس تتقاذف بها، هل سيتزوج بدلال ويأخذها معهم، ليعيشوا ثلاثتهم في رحلة واحدة؟ يجددون عهد الزواج؟
لم تنس لحظة توقفها أمامه وهي تقول له: “خالد افعل ما تريد ولكني لن أسافر معك لأي مكان، أريدك أن تطلقني”.
كانت عيناه مسمرتان عليها، وهو يقول: لم؟ وأكملت حديثها قائلة: إن كنت تحب دلال لن أكون حجرا أو عائقا في طريقك، لقد وعدتك أن أبقى معك ولكن سبب الزواج مني لم يعد له داع وها هي دلال الآن حرة، تستطيع الزواج منها في أي وقت، أما أنا فاتركني وطلقني لأعيش باقي حياتي في هدوء بعيدا عن المشاكل.
لم أعد أتحمل كلامها ورسائلها المنرفزة التي تخبرني فيها بحصولها عليك، أرجوك اتركني ارحل بسلام وهدوء.
جاوبها بهدوء: حسنا سأجعلك تسافرين مع من تحبين، وسأوصلك للمطار بنفسي.
ترى من قصد بحديثه هذا؟!! بدأ آخر المسافرين بالصعود للطائرة ومن بين الوجوه كان وجه خالد ويتقدم مبتسما من هند التي كانت تنظر إليه باستغراب، وأخذت تتأمل الركاب لعل دلال قد صعدت وهي لم ترها لكن لا وجود لها.
جلس بجانبها بهدوء، وهو يغلق حزام كرسي الطائرة على نفسه وهو يقول لهند: هل ظننت فعلا بأنني سأتركك بعدما وجدتك.
لم تفهم حديثه ولكن حركة الطائرة قربتها منه أكثر، فهي تخاف ركوب الطائرات، فأمسكت بساعده محتضنة يديه بقوة وهي مغمضة العينين، بعد أن هدأت هزات الطائرة وأصبحت مستقرة في الجو، تأملها خالد وهو يقول:
“سامحيني”، لقد أهملتك فترة طويلة كنت نعم الزوجة الصالحة الصابرة، وبدأت أحبك بالفعل كلما مرت سنة أتقرب منك أكثر، أنا لا أحب الكلام الكثير ولكني حاولت أن أرضيك والتقرب إليك بالهدايا كنت أظنها البرهان على صدق حبي واهتمامي بك، وعندما تطلقت دلال فرحت كثيرا، فهذا اختبار لمشاعري نحوك، وكنت أتعمد أخذك في تلك الأماكن التي تتواجد فيها دلال .. لتصغر هي أمام عيني وتبقين أنتِ متربعة في قلبي، ولكنكِ فاجآتِني بطلب الطلاق الذي اتضح أنه بسبب دلال التي واجهتها برسائلها لك فقالت: إنها فعلت ذلك لأنها تحبني وتريد عودتي لها، ولكني قلت لها: لا أستطيع فقلبي ملك لزوجتي.
ابتسمت هند بفرح وهي تحمد الله أن صبرها أعاد إليها زوجها، وهي بغبائها كادت أن تخسره.
ما أجمل الحب الصادق الذي لا يعرف الخداع ولا التزييف!
ما أجمل العطاء لمن تحب! بدون ذكر أسباب ومسببات مجرد لأنه يحب.
الزوج روح البيت التي تعطي بلا مقابل بل يتحمل المسؤولية لأنه أحب بدون أن يقول ذلك.