كاريزما المكان
بقلم : ليلى بنت سعيد اللمكية
الحنين والشوق للماضي فطرة إنسانية، وخاصة إذا كان مزداناً بالشغف لما حواه من صور ومشاهد وأشخاص لا يكررهم الزمن.
ما أجمل الشوق والحنين للماضي، حيث بيوت الطين .. ومزارع النخيل .. الليمون والمانجو، حيث المهد الخشبي .. وشربة الماء الباردة من الجحلة الفخارية، حيث جدتي وأمي وخالاتي ودعون “بساط من جريد النخيل يستخدم لتجفيف التمور” أنواع التمور اللذيذة. حيث غرفة النضد “غرفة لتخزين التمور بعد تجفيفها في جواني، ويقطر منها العسل الغليظ عن طريق مجرى يتنهي بحفرة لتجميعه” والدبس المحلي الغليظ القوام. حيث خُوار البقر وثُغاء الماعز، حيث جدي سالم -رحمه الله- عائداً من سوق أبو ثمانية على حماره الرمادي حاملاً معه مخرافة “وعاء من سعف النخيل” البوت الجبلي من وادي السحتن وبلد سيت، وحبات اللوز التي نتسابق وخالتي فاطمة -رحمها الله- في تكسيرها.
في بيتنا الطيني في طوي العاتي القريب من سوق أبو ثمانية وقلعة الرستاق العريقة وُلدتُ وأخي، تربينا في أحضان جدي سالم وجدتي زهرة -رحمهما الله- ترعرعنا بمزرعة طوي العاتي (وهي إرث لأبناء الشيخ ناصر بن سليمان بن راشد اللمكي) حيث كان جدي قائماً بأعمال المزرعة، ويمر خلالها فلج الصائغي “فلج داؤودي يعتمد على موسم جريان الأودية .. شُقّ زمن الإمام سيف بن سلطان اليعربي (قيد الأرض) وأول منبعه على سطح الأرض في مكان يُقال له فُرضة الشَرْح قرب حارتَيْ بيت القَرن والمُسيمدة” وأذْكُر غُرّاق الفلج والذي كان جدي يمنعنا من الاقتراب منه خوفاً علينا من الغرق.
هناك في مزرعة طَوي العَاتِي نلعب وخالتي فاطمة -رحمها الله- رفيقة طفولتي -تكبُرني بثلاث سنوات- ، كانت كأختي الكبرى نخط معاً أحلامنا وأفكارنا المستقبلية، تُشاركنا أفراحنا وأتراحنا، أقرب إلينا من أهل بيتنا، نجدها أمامنا أول الحضور في مناسباتنا.
اشترى جدي وأبي قطعة أرض في حارة أخرى، بنينا فيها بيوتنا والتي لازالت عامرة إلى الآن، انتقلنا إلى بيتنا الإسمنتي الجديد قبل انتقال جدي بسنتين وكان عمري آنذاك ثلاث سنوات، ورغم ذلك كان أكثر مكوثنا في طوي العاتي حيث الخضرة والماء والقلوب البيضاء.
كان انتقال جدي لبيته الملاصق لبيتنا الإسمنتي بمثابة عيد لنا وأخي، أذكر أننا من الفرحة ركبنا مع أبقار وثيران جدي في شاحنة “البيك أب”، عشنا سنوات عمرنا في كنف جدي سالم لحين انتقاله من دار الفناء إلى دار البقاء، وتبقى ذكريات جدي ومنزله الطيني في طَوي العَاتي من أجمل فترات عمرنا.
ويبقى فلج الصائغي بجريانه المتقطع. وتبقى مزرعة طوي العاتي لمن يرغب باستغلالها من الأهالي. ويبقى البيت الطينيّ يواجه عوامل التعرية من رياح وأمطار بين زمن وآخر يسقط جزء منه، وهو الآن جدران بدون أسقف.
ونحن لم يبقَ لنا سوى ذكرى الماضي الجميل نسطره حروف يقرؤها أبناؤنا، لتكون نبراساً لمستقبلهم، وليعلموا أن النعمة في قلوب بيضاء محبة وأيادي معطاءة يفيض منها الخير للجميع لا يُفرَّط فيها .