عالمي (عالمكم) الذي أسكنه 1-2
فؤاد البوسعيدي
يمرّ عليّ أحياناً شريط السنين الكثيرة التي مضت وتظهر لي ما فعلَته تقادم الأيام والشّهور الطويلة حُلوها ومرّها، مشاهد كلّما أدركتني إلاّ ووجدت نفسي لم أتعلّم بعد في هذه الحياة سوى القليل، تكشف لي تلك المشاهد بأني أجهل الكثير من المعرفة فلا زال هناك الكثير لأتعلمه من الخبرات والتجارب الكثيرة من الآخرين، يعبر كلّ ما في ذلك الشريط وأجد أحياناً بأنّي ما زلت أعيش فاقداً بعض سُبل الفهم والإدراك فيما يخصّ هذا العالم، وما أن تبدأ مناظر تلك المشاهد السريعة والشبيهة بتلك الأفلام السينمائية القديمة وهي تحدثني عن تلك الأيام العابرة والمحفوظة التيّ لم تُصبها بعد أغبرة النسيان وضباب السّنين وتواليها التي كلما تمّر بي إلاّ وأجد نفسي وقد أصبحت غريبة عنّي فهي تجعلني مغموراً بمشاعرٍ جمّة من المعاناة كلّما أخذتني وأعادتني إلى ذاكرتي المشوّشة الهرمة، هي تلك الذكريات التي لم تُبارح رأسي فتعود التي أحياناً ساعة تشاء، فهي أحبّت أن لا تتأثر وأن لا يصيبها العطب الذي تحدثه كثرة الأحداث وغزارة الأفكار التي تجعل من العقول أحياناً لا تعي إلى أيّ إتجاهٍ يكمن صواب وخطأ كلّ ما نعبره في هذه الحياة البالية والغير خالدة كما يظنّها البعض الذين قد يسيؤون الحكم والإختيار بين الصّواب والخطأ في هذا العالم، لا زلت أجهل أهو الإنسان غريباً عن الحياة أم أنّ الحياة بذاتها هي الغريبة التي أجرمت على البشرية جمعاء، هل الإنسان يتصنّع الأسباب التي تجعله شاذّاً في فكره وعمله وكذلك غريباً عن بقية البشر من حوله؟ تقادمت الأزمان وتطورت المؤثرات الحياتية ولكن طبيعة البعض منّا نحن البشر لا زالت كما هي لم تتغيّر، فالكثير لازال يحتفظ بشخصيته الطيبة ولم تغيّره أيّاً من تلك الظروف الكثيرة والمختلفة التي قلبت طبيعة البعض الآخر، كذلك هنالك من البشر من إحتفظ بأنانيته وشرّه المعهود وكأنه جبلاً لا يهزه ريحاً ولا يكسره فيلاً، هذه الحياة غريبة جداً على الإنسان الذي يراها ويعبر لحظاتها يومياً ولكنها في ذات الوقت أحياناً ونحن نواجه كلّ ما نلاقيه فيها قد لا تكون باعثة للشكوك ولا مريبة عند تواصلنا مع كلّ من نتواصل معه بل هي في كثير من المرّات تكون واضحة وشفافة على إعتبار حرية إختيارية وإنتقائية كلّ شخص إلى كلّ ما يريده ويحبّه في سبيل تحقيق مبتغاه وهدفه وهو الذي قد يكون غريباً ولا مفهوما عند بقية أقرانه ونظرائه الذين يتعامل معهم جنباً إلى جنبٍ في يومه، من هنا نجد بأن ما يريده البعض منّـا هو الذي يصنع الشّذوذ والغرابة في هذه وليس الإنسان نفسه هو المتّصف بالغرابة، في هذه الحياة الفريدة وهذا العالم الذي نعيشه نحن قد نصنع الغرابة في أخلاقنا وشذوذاً في تصرّفاتنا عندما نسعى إلى تحقيق أهدافنا دون مراعاة أو أيّة مبالاة بالكيفية التي سنحقق بها نتائجاً نريدها، الكثير منّا أصبح يجيد صِنعة التّمثيل والتّطبع أمام الآخرين، نعم في عالمنا هذا هناك من أصبح نجماً يُتقن التّـظاهر بشيء صنعه بنفسه وهو في الأصل شيئاً آخراً ليس له أدنى علاقة وليس له صلة تجمعه بالمظاهر التي صنعها وتحلّى بها ليعلو شأنه، نعم ويقوم فيتجمّل من خلالها ليظهر أمام الآخرين كبراءات الأطفال ليس له أدنى علاقة بأمور الدّنيا ومشاكلها.
ربع قرنٍ على تلك الحروف التي كتبتها فعاشت وسكنت عقلي وأنا حينها كنت في خطواتي الأولى التي تعبر بي من طيش المراهقة إلى حماسات الشّباب، حينها كنت أعبر مع آلة الزّمن إلى حاضر عالمين مختلفين تماماً فأحدهما هو تربية وتكوين وبناء منزلي، وأمّا الآخر فهو تركيبٌ وصنيعٌ يختاره كلّ شابٍ في مقتبل حياته، حينها كنت بين ضفّتي الحاضر والمستقبل، ولم أكن سوى ذلك الرّبان الذي يخطو خطواته في عالم البحار والمحيطات، سطور فيها حاولت أن أقدّم وصفاً مختصراً عن عالمي بل عالمنا جميعاً، فلا زلت ذات الشخص الذي يشعر بوقع ما كتبته وأعيشه، لا زال كما هو عالم غريب وغريب جدّاً لا أعرف الرأس من القدم، لا أعلم عن حدود ومسارات هذا العالم الذي بتّ أراه كالأدغال التي رغم وحشتها إلا أنه تفوح منها أحيانا أريج عبير الزّهور وبعض أوراق الشّجر وفي أحايينٍ أخرى قد نشتمّ منها روائح مستنقعاتها الكريهة وكأنها تشبه أنانية بعض البشر منّا.
بعد مضيّ ربع قرن ما زال عالمي بل عالمنا كما هو يكاد أن يكون غريباً وأحياناً غير مفهومٍ حتى مع تقادم سنين خبراتنا الإجتماعية والعملية حيث فيها نُجبر أن نتعامل مع الكثير من المواقف والجبهات المالكة لحيزٍّ كبير من يومياتنا، ما زلت أعتبره وأراه شأناً خاصاً رغم عموميته التي تجبرنا أن نذوب وننغمس مع الآخرين لكي نعيش ولتستمرّ الحياة، وكذلك تحتّم عليّ وعلى بقية نسل أبو البشرية أبانا (آدم) بأن نتقبل ونوافق على مشاركة الكثير من الآخربن أمور وشؤون عالمهم وكذلك نتقبّل وجودهم وهم يتواصلون ويشاركوننا في أمور عالمنا، هو كذلك ليس بسبب تلك المميزات التي يستطيع المرء أن يفتخر بها، ولكن تلك الفرادة والغرابة في الخصوصية تكمن في الكثير من النتوءات الشاذة التي تبرز في الإطار الخارجي لهذا العالم المشترك والتي تُظهِر أخلاقيات وصفات مختلفة عند بعض الصالح والطالح من البشر.