لا نهايات مطلقة
أحمد بن سالم الفلاحي
يقينا أنه من الرحمة بنا أن لا نكون على الموقف المطلق في جميع اشتغالاتنا في هذه الحياة، ولا في مواقفنا، ولا في أحكامنا تجاه كل ما يدور حولنا، أو علينا، حيث يتسلل الاستثناء دائما ليوجد مناخا آمنا للحوار، هذا الحوار – مع أي شيء – إن احتكم على الموقف المطلق كانت تداعياته خطيرة، وكارثية أيضا، لأن النهاية المطلقة معناها الفناء، كما هو الموت في هذه الحياة، وإن كنا – كمسلمين – نقر أن هناك حياة أخرى.
من هنا تكون القضايا الشائكة محل جدل، ومحل حوار دائم، وتعمر زمنا ليس قصيرا، وتبذل في التوفيق بين الأطراف المختلفة الكثير من الجهود، والكثير من المساعي الحميدة، وقد تسفر عن نتائج تقبلها جميع أطراف الحوار، وقد لا يقبلها البعض منها، ويسترسل الحوار أطروحاتها، ويمتد عمره، وفي كل هذه الحالات تظل النسبية في القبول وفي الرفض صورة مشرقة إلى حد بعيد، ومتى أدرك الجميع أهمية هذه الصورة “النسبية” أيقنوا أن الحياة لا تزال بخير.
هذه الحركة النسبية في حياتنا، هي التي توقض فينا شيئا من الضمير، وشيئا من المراجعة، وشيئا من الأمل، لأننا ندرك ساعتها أن هناك فضاء آخر يمكن أن نسبح فيه على امتداد الأفق، حيث لا نهاية مطلقة، وهذا ما يجدد الحياة في أعماق نفوسنا، وكما هو النص الخالد: “اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا”، وقد روي أيضا النص: “فإذا قامت القيامة، وفي يدي احدكم فسيلة، فليغرسها”، وأتصور أن هذا المعنى من أعمق المعاني الباحثة على الحياة، وعلى الأمل، وعلى تحجيم المعنى المطلق لأي مفهوم في حياتنا البشرية.
هناك الكثيرون ممن يغتالهم اليأس، ولا يروا الحياة إلا بمنظار واحد، أو من خلال زاوية ضيقة، حيث يضيقون على أنفسهم، إما خوفا على مصير مجهول، وإما عدم وعي بالحقيقة النسبية في هذه الحياة، التي يجدد آمالها توالي الليل والنهار، وهذا الأمر مسلم به إلى حد كبير لأن الإنسان خلق “هلوعا”، و “جزوعا”، لا يقر له قرار، لا تهدأ نفسه إلا بما يضمه بين كلتا يديه، فالخوف متسربل بين جزيئيات نفسه الضعيفة، على عكس ما يدعو إليه النص: “لو كنتم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدوا خماصا، وتروح بطانا”، فصور الخوف تحيط بالإنسان من جميع الاتجاهات، المرض؛ حيث يفقد الأمل في الصحة، والجوع؛ حيث يفقد الأمل في الحصول على الطعام، وفي العدو المتربص؛ حيث يفقد الأمل في الأمن، فتكثر النزعات التي تتكالب عليه من هنا وهناك، في الليل والنهار، فيغدو مشتت الفكر، قلق النفس، مشغول القلب، فيغرق نفسه في عد الأيام لعلها تمضي سريعا لتغير من مجرى حياتها المضطربة هذه، وهكذا تمر الأيام، والسنون، والانسان هو الإنسان لم يغير من سنن الكون شيئا، سوى هذا الاضطراب المستمر في حياته لعله يحظى بحياة نعيم متخيلة تتجاوز الواقع.
وفي خضم هذه الصورة القلقة يرتكب المظالم، ويقسو على أخيه الإنسان، حيث يسعى إلى انهاء حياته، فيعود آخر النهار فيقع في مأزق النهاية المطلقة (يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي ۖ فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) المائدة – الآية (31). بينما الحياة لا تحتكم إطلاقا الى مثل هذه النهايات المطلقة، وإنما فيها من الاتساع ما تستوعب كل مفارقات الحياة، وكل إخفاقات البشر، وإلا لما عاش البشر كل هذه القرون من السنين، والى أن يرث الله الأرض ومن عليها.