مقال: الحج .. مواقف وعبر
أحمد بن سالم الفلاحي
ينظر الى شعيرة الحج المباركة على أنها ممارسة دينية بحتة، تتحرر من كل معطيات النفس المادية، او هكذا يفترض، ولذلك تستدعي هذه الشعيرة ذاتها الكثير من نقاء النفس، وتصفية القلوب، والبعد كل البعد عن مناخات الحياة المادية الأخرى، وبالتالي حتى تصل النفس الى هذا المستوى من النقاء، يستلزم العودة بنية الشروع في ممارستها الى إعادة النفس الى فطرتها الأولى، قبل أن تتلبسها الأتربة ويتعفر جبينها بسواد الممارسات الحياة اليومية المختلة التي عادة ما يقوم بها الناس في حياتهم بقصد أو بدون قصد، فالحياة تعطينا المساحة الكاملة لممارسة غواياتنا المختلفة وبكامل إرادتنا، وفي الحقيقة كل الشعائر الدينية تحتاج الى هذا النقاء، وعلينا كبشر أن نكون على هذا الشرط الذي تستوجبه ممارسة كل الشعائر الدينية، وإن كان الواقع غير ذلك تماما لقصور في الفهم وفي الوعي، وفي التطبيق، فالجدال القائم بين الإنسان والشيطان، والمحاككة المستمرة، وحالات الغالب والمغلوب مستمرة، وفي خضم هذه التفاعلية التي تخور فيها القوى مرة، وتصمد مرات، تحظى هذه الشعيرة أو تلك بشيء من الصفاء، وبشيء من النقاء، وبشيء من الود، وبشيء من الاطمئنان، ولأن الحالة ليست مستقرة، فكثير ما ينتقض هذا العهد مع النفس، وتبدأ حالة أخرى من النضال، والمجابهة، وهكذا حياتنا الى أن تودع النفس آخر لحظة من عمر الحياة، حيث تبدأ أنفس أخرى تعيش نفس الصراع.
الحج شعيرة أخرى تعيش نفس المعترك مع النفس، وإن كان هذا العراك يتزاحم أوجه وقوته في السنة مرة واحدة، وربما لهذا السبب تظهر عيوب الممارسة التي يقوم بها الحجاج صحيحهم ومخطئهم، نقيهم وظالمهم، صادقهم وكاذبهم، عارفهم وجاهلهم، وتبقى الصورة في عموميتها أنهم “ضيوف الرحمن”، فهل استوعب جموعهم هذه التسمية، وهل عرفوا حق هذه الاستضافة في هذه البقعة المباركة من أقدس بقاع الأرض، فالممارسات المتجاوز في تقديرها، وفي أحقيتها لا تنبئ عن فهم لهذه التسمية “ضيوف الرحمن”، وكأن النفس هي النفس التي تمارس تسلطها وإغواءاتها في بقية أيام السنة تأتي بنفس ذلك في هذه المساحة الآمنة المقدسة من الأرض، حيث لم تستطع ولو لفترة قصيرة من عمر الزمن أن تتخلص من تجاذباتها المادية والنفسية الخاصة، وبذلك تعود النفوس – في أغلبها – كما كانت من قبل حيث لا جديد.
هذا القصور المعرفي في فهم المعاني والدلالات التي تسعى ممارسة هذه الشعائر الى غرسها في الأنفس، يأتي أن هذه الأنفس ذاتها لم تكن صادقة بالقدر الذي يحمله معنى الشعيرة ذاتها، وإنما يتم التعامل معها وفق الحالة العامة التي يعيشها الناس جميعا، دون أن تأخذ خصوصيتها مع نفس الفرد فقط، ومدى قدرتها على التحرر من هذه الحالة العامة، والتحول الى الحالة الخاصة جدا، لتنقذه من هذه “الهلامية” إن تجوز التسمية، السائدة بين الجميع، وبالتالي تتكرر الصورة نفسها بعد العودة، ويكبر حجم السؤال عن سر الإخفاق لدى هذا الحاج او ذاك عن استلهام العبر، والتأثير المباشر على مختلف سلوكياته التي يتوقع ان تكون بفارق (36) درجة عما هو معتاد، وهنا لا توجد تزكية لأي مستوى تدين ما، يظهر على شكل صور، كما يحلو للبعض أن يتمثل بلباس، او تطويل ذقن، او تقصير ثياب، فما نعيشه من سلوكيات تمر على هؤلاء جميعهم تؤكد بجلاء أن ممارسة الشعيرة لم تجد منفذا الى القلب، لتغير قناعات سائدة، وسلوكيات ممارسة، وهذا ما يؤسف له حقا.