قصة الصديقان .. الهاتف الليلي

فايل المطاعني
مقدمة ..
في زوايا المدن الكبرى، حيث تنطفئ الأضواء لتترك المكان لسكون الليل، هناك حكايات لا تُروى في العلن، بل تولد من رنين هاتفٍ متأخر أو فنجان قهوة يتصاعد بخاره في صمت الفجر.
وفي قلب هذا الصمت، يسكن عمر، رجل اعتاد مراقبة الحياة كما يراقب شروق الشمس من نافذته، لا يركض وراءها، بل يحتسيها برويّة، كما يحتسي قهوته الفرنسية.
لكن في لحظة غير متوقعة، يأتي صوت من الماضي، من صديق قديم، ليقلب هذا الهدوء رأسًا على عقب…
ويبدأ فصل جديد من الذكريات، والمواقف، والأسئلة التي لا إجابات جاهزة لها
الهاتف الليلي
أزعج رنين الهاتف المتكرر عمر بن عبدالله.
كان مرهقًا بعد عودته من العاصمة الفرنسية باريس، فأغلق الهاتف نهائيًا وغطّ في نوم عميق.
مع بزوغ الشمس، استيقظ كعادته، يراقب الأشعة الذهبية وهي تتسلل إلى غرفته، تبعث في روحه طاقة إيجابية جديدة.
وفجأة، وبينما كان يحضّر الكرواسون الساخن ويحتسي قهوته الفرنسية المفضلة، مستعيدًا ذكريات شارع الكونكورد الباريسي، تذكر ذلك الاتصال الليلي المزعج الذي أخرجه من أحلامه الجميلة.
قال بالفرنسية وهو يقطّب حاجبيه:
ـ Qui est cet appelant ennuyeux ?
(من ذلك المتصل المزعج؟)
كان يحب التحدث بالفرنسية، لغة الجمال والموضة والنساء، فباريس بنظره هي عاصمة النور.
فتح هاتفه المحمول وتوجه إلى سجل المكالمات الفائتة.
قال بدهشة:
ـ “أخيرًا، علمنا من المتصل! إنه صديقي محمد!”
ضحك وهو يضيف:
ـ “بالفعل، إنه مزعج… لكن، ما الذي يدفعه للاتصال بي في هذا الوقت المتأخر؟ أهناك أمر خطير؟”
فكر مليًا:
ـ “لا أظنه اتصل فقط ليعزمني على طبق المسكوف المفضل لدي!”
رفع الهاتف واتصل بمحمد:
ـ “السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.”
ـ “وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.”
قال عمر مبتسمًا:
ـ “الحديث في الهاتف لا يكفي، تعال وشاركني الغداء.”
رد محمد فورًا:
ـ “أنا قادم حالًا.”
وفي أقل من ساعة، كان عمر يفتح الباب لصديقه، وهما بانتظار الطعام الذي طلباه من المطعم. لم يلتقيا منذ زمن، فقال محمد مبتسمًا:
ـ “ما زلت كما أنت يا صديقي منذ أيام الجامعة.”
رد عمر ضاحكًا:
ـ “مسيو محمد، ولمَ أتغير؟ هذه شخصيتي. أحب الحياة وأعيشها على طريقتي.
استغرب محمد وسأله:
ـ “كيف تمسك بهذه الخيوط الثلاثة معًا وتسيرها بتناغم؟ الدين، المال، النساء؟”
أجابه عمر مبتسمًا:
ـ “تسأل عن الثالوث؟ سأجيبك يا صديقي.
نحن نعبد الله حبًا فيه، لا خوفًا فقط من الجحيم. كما تؤدب ابنك وأنت تحبه، كذلك عبادتنا.
أما النساء، فهن رياحين الحياة، وهواؤها العليل. من منّا يعيش بلا وردة تعطر أيامه؟”
ضحك محمد وقال مازحًا:
ـ “وردة؟ قل ورودًا، أيها الأسمر الوسيم!”
ضحك عمر وأجاب:
ـ “كلامك في محله. هن حدائق غناء، ولا نستطيع فراقهن.
أما المال، فهو وسيلة للحياة؛ تستخدمه صح فترتاح نفسيًا، وتجعله حجة لك أو عليك.”
ثم أضاف عمر وقد لاحظ تغير وجه صديقه:
ـ “لكن، أراك تختلف معي في شأن المرأة.”
أجابه محمد بجدية:
ـ “نعم، أرى أن مكان المرأة البيت، وحقها الوحيد هو الفراش… وبعض الامتيازات التي يتفضل بها الرجل.”
قاطعه عمر غاضبًا:
ـ “المرأة ريحانة الحياة وعطرها. واحترامها من صلب ديننا، لا منّة منك أو تفضل، أيها الـbarbaric!”
ضحك وهو يضيف ساخرًا:
ـ “أكاديمي ولا تزال ترى المرأة وعاءً للإنجاب؟ ارتقِ، أيها الشرير!”
ثم ابتسم وقال:
ـ “والآن، دعنا من هذا الحوار البيزنطي، وأجبني… ما الذي دعاك للاتصال بي فجرًا؟”
وهنا، طرق الباب معلنًا وصول الغداء…
يتبع…
معاني الكلمات:
مسكوف: أكلة سمك مشوية شهيرة لدى أهل العراق.
Barbaric: غير متحضّر.