الأحد: 13 أبريل 2025م - العدد رقم 2519
Adsense
مقالات صحفية

العين البوهيمية: بين فلسفة التمرد وهيمنة السطحية

د. طالب بن خليفة الهطالي

هل نتمتع بالحرية حقا عندما نتمرد أم أن التمرد ذاته قد يكون قيدا في صورة جديدة؟ وبينما نرفض التفاهة، ما الذي يجلعنا نقع في شباكها؟ هل لعدم سابق معرفتنا لمعنى التفاهة أم لعدم معرفتنا لصورها وأشكالها؟ لطالما انشغل الفلاسفة والمفكرون بمسألة الحرية الفردية والمعايير التي تحدد قيمة الإنسان في المجتمع ومن بين التيارات الفكرية التي أثارت جدلا واسعا في الأوساط الثقافية يبرز مصطلح البوهيمية باعتباره حركة تعبّر عن التمرد على الأعراف الاجتماعية، مقابل نظام التفاهة الذي يعكس سيطرة النظم الحديثة على عقول الأفراد وتفضيلها للسطحية على العمق، وبين هذين الاتجاهين، يقف العقل الذي يسعى إلى التوازن متسائلا: أي الطريقين أحق بالاتباع أم هل هناك خيار ثالث أكثر حكمة؟
البوهيمية: مفهوم نشأ في أوروبا القرن التاسع عشر حيث ارتبط بالفنانين والمثقفين الذين اختاروا العيش خارج الأطر التقليدية للمجتمع منكرين على أنفسهم القيود الاجتماعية والمادية التي يرونها عبئًا على الإبداع والتحرر الذاتي، وتتمحور البوهيمية حول رفض القواعد الأخلاقية الصارمة والمادية الرأسمالية والمفاهيم التقليدية للنجاح، فالبوهيمي يؤمن بأن الحرية المطلقة في الفكر والسلوك هي السبيل الوحيد لبلوغ الحياة الحقيقية ولكن ورغم الظاهر من فلسفة التحرر التي تمثلها البوهيمية، فإنها تحمل في طياتها العديد من التناقضات، إذ إنها وإن كانت تدعو إلى الحرية الفردية، فإنها غالبا ما تتحول إلى فوضى تحكمها أهواء الفرد بعيدا عن الالتزام المجتمعي؛ وقد أشار أبو العلاء المعري إلى هذه النزعة بقوله:
خفف الوطء ما أظن أديم ::: الأرض إلا من هذه الأجساد
وهو يعكس بذلك حقيقة أن التحرر المطلق قد لا يكون إلا وهماً، إذ تبقى قيود المجتمع والتأريخ والثقافة تحكم الفرد ولو حاول التمرد عليها.
أما نظام التفاهة: فهو مصطلح ظهر في النقد الاجتماعي الحديث خاصة في كتاب “نظام التفاهة” لـــ آلان دونو (Alain Deneault)، الذي وصف كيف أن النظم السياسية والاقتصادية الحديثة أفرزت ثقافة تُفضّل السطحي على العميق، والمريح على المحفّز للتفكير، مما أدى إلى صعود شخصيات تافهة تتحكم في المشهد العام، بينما يتم تهميش المفكرين وأصحاب الرؤى العميقة، ويرى هذا الطرح أن المجتمع الحديث يعيد تشكيل أفراده وفق أنماط استهلاكية مكررة، حيث يتم إعلاء شأن النجاح السهل على حساب الاجتهاد، والشهرة الفارغة على حساب القيمة الحقيقية، ويحظرني هنا قول ابن خلدون في مقدمته:
“إذا رأيت الأمم تكثر من الترف، وتعظم من شأن التفاهات، فاعلم أن أفولها قد اقترب” وهذا ما نشهده في عالم اليوم، حيث تسود ثقافة التسطيح.
إن من يعتنق الفكر البوهيمي غالبا ما يسعى للابتعاد عن القيم التقليدية للمجتمع، مما قد يؤدي إلى إبداعٍ حقيقي في مجالات الأدب والفن والفكر، ولكنه قد يؤدي أيضا إلى حياة عبثية تخلو من الغايات الكبرى، فكثير من البوهيميين ينتهون إلى العزلة والفقر والتشرد لعدم رغبتهم في الانخراط في نُظم العمل والالتزام المجتمعي، بينما من يعتنقون نظام التفاهة فإنهم غالبا ما يندمجون في تيارٍ استهلاكي يُشجعهم على الامتثال بدلا من الإبداع، والموافقة بدلا من النقد ونتيجة لذلك، تتراجع جودة المعرفة والثقافة، ويتم إقصاء العقول المفكرة التي تحاول كشف زيف هذا النظام، ولأننا نعيش في زمن يفرض علينا هاتين الظاهرتين يبقى السؤال الأهم: هل يمكننا إيجاد طريق وسط بين هذين النقيضين؟
إذا كان الفكر البوهيمي يدعو إلى التحرر الكامل، ونظام التفاهة يرسخ الامتثال الأعمى، فإن الحل يكمن في الاتزان بين الفكرين، فالمجتمع يحتاج إلى حرية الإبداع دون أن تتحول إلى فوضى، ويحتاج إلى النظام دون أن يكون قمعيا وسطحيا، وبإعمال الفكر وبين صد ورد كان قول الحق سبحانه وتعالى في كتابه العزيز : “وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا” (البقرة: 143) هو الجواب، وحيث إن الفلسفات الإنسانية والعقلية تؤكد على أهمية الوسطية في التعامل لأنها تساهم في بناء مجتمع متوازن يحترم حقوق الفرد والجماعة، فالتوازن بين الحرية والالتزام هو مفتاح النهضة الحقيقية، وهذا يعني أن الفرد يجب أن يكون قادرا على التفكير النقدي والابتكار دون أن يسقط في فخ الفوضى أو الاستسلام للنظام السائد، فالإبداع الحقيقي لا ينمو في بيئة قمعية ولا يزدهر في فوضى فكرية.
أيها القارئ الكريم، لست مطالبا لك بأن تكون بوهيميا ترفض كل شيء، ولا أن تكون تابعا لنظام التفاهة، بل أن تبحث عن طريقك المتزن بين الإبداع والواقعية، وبين الحرية والمسؤولية؛ كن مثل النهر يجري بحرية ولكنه يلتزم بمساره، يروي الأرض ولكنه لا يغرقها.
قال المتنبي:
إذا غامرتَ في شرفٍ مرُومِ :: فلا تقنعْ بما دونَ النّجومِ
كن مبدعا، كن حرا، ولكن لا تنسَ أن تحمل معك مسؤوليتك تجاه نفسك ومجتمعك، فبذلك وحده تُبنى الحضارات وتنهض الأمم، لأن التوازن هو مفتاح كل شيء، وإدراك هذا المبدأ هو الخطوة الأولى نحو حياة فكرية وأخلاقية متزنة، مليئة بالإبداع الحقيقي والعمق الفكري والسمو الإنساني.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights