الأحد: 27 أبريل 2025م - العدد رقم 2533
Adsense
قصص وروايات

جنود جالوت

 

ميادة بنت رامس بن عبدالله العمرية

كانت الساعة تشير إلى العاشرة صباحاً عندما كان الجميع في المنزل يترقب النتائج النهائية لاختبار المرحلة المتوسطة، وبينما كانت الزغاريد تعلو وتتصاعد من بيوت الجيران، كان “واصل” يجر أذيال الخيبة معه بعد أن قضى أيام الدراسة في اللهو واللعب، ورغم ذلك كان عنده أمل كبير أن يأتي معه بما يبشر به والديه، وأن يكون كأقرانه من أبناء الجيران الذين تباهَوا بنجاحهم أثناء التقائهم بهم في طريقه للمنزل.

 فتح “واصل” باب البيت فتفاجأ بعائلته تنتظره بفارغ الصبر؛ لكي يبشرهم بما يسُرُّهم، لكنه اكتفى بالنظر إليهم وعلى وجهه علامات الاستياء، لم يجرؤ أن يصارحهم بفشله ورسوبه، اكتفى أن يمهد لهم الخبر بما يبديه من استياء، ثم دخل غرفته وأغلق الباب خلفه بكل قوة. حتى هذه اللحظة كان الجميع يظن أنه ليس جادا وأنه مقَلبٌ كالمقالب التي اعتاد عليها كل سنة وقت ظهور النتائج، حيث كان يبلغهم برسوبه، وبعد أن يرى علامات الحزن على وجوههم يُلْقِي عليهم البشارة؛ فترتد قلوبهم فرحا.

انتظروا دقائق علَّه يخرج عليهم ويُنْهِي هذا القلق الذي بداخلهم بفرحة كبيرة، لكنه لم يخرج من الغرفة. توجس والده من ردة فعله ولحق به تتبعه زوجته، وبعد أن ألقى عليه السؤال: إن كان ناجحاً أو راسباً؟ فأخبره بكل برود أنه رسب. غضب والده غضباً شديداً، وألقى عليه وابلاً من العتاب الغليظ بتوجيه اللوم والانتقاد له بشكل قاسٍ. لم يكن “واصل” مبالياً بما يسمع واكتفى بالاسترخاء والتمدد على سريره. اشتاط والده غضباً لما يبديه من ردةِ فعلٍ باردة، وتوَجَّهَ نحوه يريد أن يُلَقِّنَهُ درساً، لكن زوجته عمدت إلى تهدئته والتمست منه أن يهرع إلى ذكر الله وأن يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بعدها توجه والده إلى خارج الغرفة وهو يشعر بالحَنَق، وتوجهت والدته إليه تواسيه وترفع من معنوياته، حيث كانت تخبره بأن لا يحزن وأنه سوف يعوضها العام القادم وأنه سينجح بإذن الله، لكنه صدمها بقوله: إنه لم يعد يريد أن يُكْمِلَ دراسته، وأنه سيكتفي بهذا القدر من مسيرة التعلُّم، ظنت والدته أن قراره مجرد هراء، وأنه قرار في حالة غضب أو ردة فعل عارضة ويَعْدِلُ بعدها عن رأيه فيما بعد.

 مرت أيام الإجازة سريعةً ونسيَ “واصل” ما كان يعزم إليه من ترك الدراسة، وذهب بصباح العام الدراسي الجديد إلى المدرسة والتزم بالذهاب إلى مدرسته كل يوم، وحاول هذه المرة أن يبذل جهداً بسيطاً؛ حتى يتفادى الرسوب مرة أخرى، وبعد أن انقضت أيام الدراسة بلياليها الطوال؛ حقق واصل هذه المرة نجاحاً مُرضيا نوعاً ما لعائلته، إذ كانت نتائج علاماته الدراسية تُشَكِّلُ فرحاً ممزوجاً بخزي حيث كانت كل مادة تستند إلى درجة واحدة تحول بينها وبين الرسوب، إلا أن هذا لم يكن عائقا بينه وبين فرحة أهله؛ فالكل كان سعيداً هذه المرة بنجاحه، واحتفى الجميع به، وأظهروا له الفرح والسرور وعلت زغاريد والدته، وكان “واصل” يشعر وقتها بالفخر والإنجاز.

انتقل “واصل” إلى المرحلة الثانوية، وبعد أن اجتاز السنة الأولى بشِقِّ الأنفس، وجد نفسه في السنة الثانية في مواجهةٍ مع مواد صعبة، لم يستطيع عقله أن يستوعب هذا الكَمَّ من المعادلات الحسابية الرياضية والكيميائية والفيزيائية، وأكمل على مضض الفصل الدراسي الأول، حتى ظهرت النتائج؛ فكانت نتائجه يُرْثَى لها؛ مما جعل الاستياء يبدو واضحاً على والده، وازداد استياءً بعد أن أخبره “واصل” بقرار توقُّفِه عن الذهاب إلى المدرسة. لم يخفف من حدة غضبه إلا عند سماعه قرار آخر من “واصل”، والذي أخبره برغبته بالالتحاق بمعهد التدريب المهني الذي يوجد في إحدى أرجاء البلاد، ورغم محاولة والده إقناعه أن يُكْمِلَ دراسته، إلا أنه كان مُصِّرا على رأيه، فلم يجد أبوه بُدًّا إلا أن ينصاع إلى رغبته.

بعد أن انتهى “واصل” من جميع الإجراءات المطلوبة للالتحاق بالمعهد غادر على أمل أن يلقاهم في كل إجازة.

 صبَّ “واصل” كل حماسه في دراسته، وكان من المجتهدين، وكان في كل إجازة يأتي ويُغْدِق أخواته وأمه بالهدايا. بعد انقضاء مدة التدريب تخَرَّجَ “واصل”، وحالفه الحظ بأن يلتحق بإحدى الشركات التي تتطلب تخصصه براتب كبير؛ فاشترى لنفسه سيارة.

مرت الأيام، و”واصل” لا يشتكي من عمله، بل كان سعيدا بعمله ومجتهدا فيه، لكن فجأة تدهور حاله وبدت عليه تصرفات غريبة، إذ إنه قام بشراء دراجة نارية يقودها في وقت متأخر من الليل بين زقاق الحي الذي يسكنه دون هدف يُذْكَرُ، ازدادت الشكاوي من الجيران عند أبيه من ضوضاء صوت الدراجة التي تحرمهم النوم الهانئ؛ بسبب صوتها العالي المزعج، وبعد مشادات كلامية بينه وبين والده، عمد لسياقة الدراجة في مكان آخر بعيدا عن الأحياء السكنية، حتى وقع له حادث بها وتعَرَّضَ لجروح طفيفة إلى متوسطة، بعدها قرر “واصل” بيع الدراجة والعودة إلى قيادة سيارته.

لم يكن الحال مع السيارة أفضل منه حالاً من قيادته للدراجة؛ فقد كان دائماً يُسْرِعُ بالسيارة بسرعة جنونية، ومرت الأيام وتَعَرَّضَ لعدة حوادث خطيرة بسبب تَهَوُّره، فمن كان يرى السيارة وهي متدهورة لم يكن يصدق أن قائد تلك المركبة على قيد الحياة، فقد كان في كل مرة ينجو بأعجوبة ويُصاب فقط بجروح طفيفة، مع كل هذه الأحداث الغريبة التي كانت تحدث له، كان أهله في حيرة من أمرهم وتساؤلات عن ما يحدث ل”واصل”، فقد رجَّحُوا أنه قد يكون به مسُّ أذىً شيطاني؛ فجعله متخبطا في تصرفاته، فأحضروا له شيخا يقرأ عليه بعض آيات الرقية، فثار عليهم وبدأ يُلْقِي عليهم وابلاً من الشتائم؛ مما جعلهم يتيقنون أن به مَساً شيطانياً، ولم تُفْلِحْ كل جلسات الرقية في إصلاح حاله؛ بل ازداد سوءاً حيث إنه كان إنسانا طبيعيا لكنَّهُ فجأة يتغيَّرُ حاله بين عشيةٍ وضحاها؛ إذ إنه كل ثلاثة أيام من كل شهر يهلوس بعبارات عجيبة ويختلق المشاكل مع أهل بيته، وتحدثُ اشتباكات بينه وبين أخيه الأكبر، ويصبح فجأة وحشا كاسراً يتلفظ بالسب واللعن وأقبح الشتائم على أمه وأبيه وأخواته، ويقوم بتأليف قصص وهمية بالباطل على أخواته؛ لكي يُحْدِثَ فتنة كبيرة في المنزل، يوم على يوم صار وجود “واصل” يُشَكِّلُ خطرا كبيرا بالمنزل، إذ إنه تطَوَّرَ الأمر عنده، وبدأ يُشْهِرُ السلاح، ويهدد ويتوعد إن لم يتم إعطاؤه المال سيقدم على عمل كارثة، فتارة يهدد بالانتحار، وتارة يهدد بأنه سوف يقود سيارته بآخر سرعة ويصطدم بصهاريج الوقود التي توجد في عمله، وتارة يهدد أن يُلْقِي نفسه وسيارته من أعلى الجبل ليتلقفه البحر ومن ثم يبتلعه، لكنه كان في كل مرة يُنْهِي تهديده بالبكاء!

 تصاعدت الأحداث في بيت أبي “واصل”؛ حيث أصبحت مشاكل “واصل” بشكل يومي يكون لكل مَنْ في البيت فيها نصيب من الشتائم والكلام البذيء والاشتباكات بينه وبين أخيه في تصاعد والتعَدِّي بالضرب على كل من يقف بوجهه، لم يَسْلَمْ حتى زملاؤه بالعمل من مشاكله فتم طردُه من العمل.

  تفاقمت مشاكله، وأصبح الوضع معه لا يُطَاق، حتى ضاق الحال بأبيه فقرر أن يقدم بلاغا عليه في مركز الشرطة، وتكررت البلاغات، إلا إنه ولسبب ما لا تتم عملية الضبط والإحضار، ففي البداية لم تُصَعِّد الشرطة الموضوع على أنها مشاكل عائلية، وسيتم حلها فيما بينهم، وتعمل على تهدئة الوضع بينهم تارةً، وتارة أخرى يرق قلب الأب لولده؛ فيسحب شكواه.

 استمر “واصل” على حاله سنين عديدة حتى تأقلم كلُ مَنْ في البيت على مشاكله التي أصبحت روتينا يومياً، فليس لهم حولٌ ولا قوةٌ، ولا طاقةَ لهم بمشاكله؛ فحاول الجميع تجنُّبَ التصادم معه قدر الإمكان، وكان البيت كلما سكن الهدوء بزواياه، وخيَّمَ الهدوء على أركانه، تصَدَّعَ من صوت “واصل” الذي كان صوته كالرعد يهزُّ أركان البيت.

 في إحدى ضواحي المدينة لم يكن حال أبي “جاسم” أفضل حالاً من منزل أبي “واصل”؛ فقد كانت جُلُّ تصرفات “واصل” هي ذاتها يقوم بها “جاسم” في البيت من افتعال المشاكل وغيرها، كانت الصُّدفُ هي من جمعت أخت “واصل” مع أخت “جاسم” وبعد صداقة طويلة، وفي بعض الفضفضات التي انسابت من حديثهن، وجدن عوامل مشتركة بين ما يَحْدُثُ لأخ كل منهما من صراع وتصادمات وأعراض.

 في يوم من الأيام وقبل أذان الفجر، شاهد أحد الجيران أثناء مشيِهِ باتجاه المسجد سيارة تقف أمام منزل أبي “واصل” ويخرج منها شخص مُرِيب يلتفت ذات اليمين وذات الشمال، توجَّس الجار من ذاك الرجل ظنا منه أنه لص، لكنه دُهِشَ بأنه توجه نحو سيارة “واصل”، وبعدها تفاجأ ب”واصل” يُنْزِلُ نافذة السيارة ويستلم لفافة من يد ذاك الشخص، بعدها غادر ذاك الشخص بسرعه حتى لا ينتبه إليه أحد.

أصبح “واصل” يحب الجلوس في سيارته طويلا؛ فقد كان يجلس طوال الليل بها وهي أمام المنزل.

 في يوم من الأيام، وبينما تُرْسِل الشمس أشعتها على المدينة، استيقظ الجيران على صوت صراخ من ناحية بيت أبي “واصل”، لكن هذه المرة لم يكن صوت “واصل” الذي اعتادوا أن يكون صوته هو الصوت الأعلى الذي يخرج من بين جدران بيته، بل كان صراخ أمه، التي كانت تصرخ بشكل هستيري وتنادي باسم فلذة كبدها، وقرة عينها: واصل واصل! لقد علا صوتها، وتردد صداه في الأرجاء، وهنا وعلى وجه السرعة اتجه الجيران نحو بيت أبي “واصل”، ليتفاجؤوا ب”واصل” ملقىً على الأرض تحتضنه أمه والعَبَرات تترقرق من مآقيها، وهي تودع ذلك الجسد النحيل، والكلُّ مِنْ حولها يردد: لا حول ولا قوة الا بالله! إنا لله وإنا إليه راجعون!

في خيمة العزاء كان جميع المُعَزِّين يتناقلون بينهم سبب وفاة “واصل”، وعن أخبار وجود عصابة دولية أطلقت على نفسها مسمى (جنود جالوت) نشرت أفرادها في جميع أنحاء الوطن العربي، ومهمتها السعي لتدمير الشباب في كل الوطن العربي.

 وما زال البحث جاريا عن أولئك الذين يعيثون في المجتمعات فساداً وإفساد بصورٍ شتى يدمرون من خلالها المجتمعات في أعزِّ ما تملكه من طاقات شبابية معطلة، وقدرات حيوية مبعثرة تحتاج إلى أيدٍ حانية وقلوب رحيمة تأخذ بأيديهم إلى طريق البناء والنماء؛ ليصبحوا عناصر فاعلة تنهض بهم مجتمعاتهم، وتُبْنَى على سواعدهم حضارة بلادهم!

 نعم جدير أن يكون البحث دؤوبا عن عناصر الفساد والإفساد عن أمثال هذه الجيوش الظلامية الفتاكة التي تضرب الأمة بكل خديعة ومكر في أعز ما تملكه الأمة، يجب أن تتنبه الأمة لمثل هذه العناصر الإجرامية من مروجي المخدرات، ومُشِيعي الأوهام والخرافات، وناشري الأفكار المنحرفة والمذاهب المتطرفة، وداعمي الانحلال الأخلاقي والتفسخ القيمي لئلا يكون مصير شبابنا كمصير واصل؛ فتصبح حصوننا مهددة من الداخل!

فليكنْ مصير “واصل” صيحةَ نذير نحو عناصر الفساد والتدمير!

مات “واصل” وانتهت قصته، وقصة معاناة أهله معه، وما زالت هناك قصص أخرى في بيوت أخرى لم تنتهِ بعد، وما زال البحث جاريا عن؛ “جنود جالوت”.

 

 

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights